أحبتي الافاضل أنقل أليكم أجزاء من كتاب معلمي وملهمي الطبيب العربي خالص جلبي
بغرض أثراء آراؤه وتمحيص استشرافه للغد
كتاب ... (الثورة العلمية الحديثة والإيمان )
بقلم الدكتور خالص جلبي
مر الكون بثلاث انفجارات كوسمولوجية وبيولوجية وثقافية ويعصف به اليوم انفجار علمي يمشي على وتيرة تسارع يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار . العاصفة تكنس الطبيعة وتعيد ترتيب العلاقات ، والثورة تكنس الأوضاع وتعيد تنظيم علاقات القوة وتوزيع الثروة ، والعلم يقلب التصورات في قفزات كمية ؛ ليحدث في النهاية ثورات علمية نوعية . نحن اليوم نمشي فوق زلزال علمي يقذف حممه دون توقف .
خلال فترة قصيرة تم اختراق عشرات الحقول المعرفية في قطاف شهي لفاكهة جديدة وأبَّا ؛ فتم الاعلان عن معلومات مثيرة في ( الفيزياء الذرية ) و( الكوسمولوجيا ) و( الاركيولوجيا ) و( البيولوجيا ) و( الانثروبولوجيا ) و ( الطب ) و ( البالينتولوجيا ) و ( الكيمياء ) و ( علم الخلية ) و( أبحاث الأعصاب ) و( أبحاث الجينات ) و ( التاريخ ) و( حفريات الجينات ) و ( أبحاث الفضاء ) و ( تكنولوجيا سيارة المستقبل ) و ( آخر تطورات السلاح النووي ) و ( تطور الأبحاث الروحية ) . في ( الفيزياء الذرية ) استطاع الذكاء الانساني الامساك بالظلال في تركيب ( مضاد المادة Antimaterial ) في أمكانية توليد للطاقة لم يحلم بها سليمان في كل مجده مع تسخير الجن وهم يوزعون .
إذا كان الانسان يرى وجهه في المرآة ، وظله على الأرض ؛ فإن المادة لها هذا الشبيه ، في جدلية عجيبة ومن كلِ شيء خلقنا زوجين . مضاد المادة ليس روحاً ولاظلاً لايمكن الإمساك به ، ولافراغاً معنوياً ميتافيزيقياً ، بل هي مادة مثل المادة ، في الأرض من شجر وحجر ومدر ، ولكن بشكل متناظر ، يرجع فيه التناظر الى البناء المقلوب للذرة ، وكانت معادلة الالكترون التي رسمها ( بول ديراك ) هي مفتاح الوصول الى مضاد المادة . هناك عالمان متناظران ، ولكن حُرِّم عليهما التلامس أو الاندماج وجعلنا بينهما برزخاً وحجرا محجورا . المسموح فيه فقط الحب العذري ؟! في عام 1932 م استطاع شاب أمريكي فيزيائي طموح هو ( كارل ديفيد اندرسون Carl David Anderson ) في معهد كاليفورنيا التكنولوجي في باسادينا ( California Institute Of Technology In Pasadena ) وبتقنية خاصة من اصطياد ظل الالكترون المستخفي بالليل السارب بالنهار . تلقى بعدها ديراك الاعتراف العالمي للتجلي العبقري ، وفوقها إكرام جائزة نوبل للفيزياء ، كما نال صائد الظل المقلوب جائزة نوبل مثله جزاءً وفاقاً ، وتم مسح الالكترون الظل القرين باسم ( البوزيترون Positron ) . قال ديراك في حفلة تسلمه جائزة نوبل في السويد : من يدري لعل هناك عوالم كاملة هي نظيرنا حذو القذة للقذة ، في صورة كوبي مختلفة ، على شكل مقلوب جداً ، فلم تبق المسألة عند الالكترون الظل . كان ديراك يعني بكلماته القليلة أن الأمر لن يتوقف عند الالكترون الحائر بين السالب والموجب ، بل وجود كيان كامل للذرة على صورة معكوسة الشحنة . إذا كانت نبوءة ديراك عن شخصية الالكترون السلبي ( البوزيترون ) العجيبة المختبئة في تضاعيف الوجود احتاجت الى أربع سنوات لتحقيقها ، فإن شخصية البروتون ( سلبية الشحنة ) استغرق 23 سنة حتى أمكن الاهتداء عليه وأعلن عنه رسمياً في جامعة كاليفورنيا في بيركلي عام 1955 م . وهكذا بدأت ملامح صورة العالم الخفي ( مضاد المادة ) تتكامل وتسعى الى الظهور تدريجياً . كان التحدي في خروج مضاد البروتون ، في سخونة مرعبة وسرعة كلمح البصر أو هو أقرب ، فيحتاج الى كوابح تقنصه وتحافظ عليه ، فتم اختراع جهاز حصار له أخذ اسم )( لير Lear Low Energy Antiproton Ring ) أي حلقة مضاد البروتون منخفض الطاقة (1)
تم تركيب مايشبه ( مصائد الفيران ) لالتقاط البروتون السلبي ، وزجه في زواج مع البوزيترون ، يعتمد الترغيب في هذا الاقتران ، لتوليد الذرية الجديدة . ولكن عشرات السنوات انقضت ، ومئات المحاولات بذلت ، بدون نجاح يذكر ، في الاحتفال بهذا الزواج الميمون . كانت الجزيئات تظهر تمنعاً عجيباً وزهداً غير مفسر في هذا الزواج وإعلان صارم للرهبنة والعزوبية . وفي الوقت الذي آثر الفيزيائيون طريق الشقاء الطويل وكيلومترات الأوراق من الحسابات المملة لأجهزة تصم الآذان بطنينها المتجدد ، كان الأطباء أكثر حظاً ، في الاستفادة من التقنيات الجديدة ؛ فهرعوا الى ( البوزيترون ) يستفيدون من أسراره ، فأمكن تطويعه في تقنيات متقدمة ، للكشف عن وظائف الدماغ وأورام المخ والجملة العصبية عموماً ، فمع حقن السكر الذي يحمل ذرة الكربون المشعة ، يتعرض ( نظير المادة ) الى التحلل وإطلاق ( البوزيترون ) الالكترون الموجب ، الذي يفاجيء بغريمه وظله المقابل الذي يتربص به الدوائر ، فيهرعان للنزال والطعان ، بثمن مخيف من اندثار الاثنين في الصدام الموحش ، ومن تألق هذا الاصطدام يمكن تحديد أمكنة الأورام والاضطرابات المرضية .