عملية جراحية
عقم يديه وارتدى القفاز واستعد لجراحة لا بد أن يجريها هو .. لا أحد غيره .تناول المبضع ونظر إلى الوجه الذي أمامه .. عليه أن يبدأ من أعلى الجبهة .. عند منبت الشعر .. جرى بالمبضع في حركة سريعة .. أحدث شقا في الجلد .. تململ الرأس الذي أمامه.. رأى آهة .. اندفع الدم بغزارة فأسرع يعالج اندفاعه ( عجبا كيف تململ الرأس على الرغم من كمية المخدر الموضعي التي رشها كما حددها الطب ) ..
عندا زار الطبيب وجلس في غرفة الكشف , لم يكن الطبيب موجودا .. أدهشه خلو المكان من سرير الكشف .. أوغل في دهشته عندما رأى كم اللوحات المعلقة على الجدار هنا وهناك .. فيها ما فاق الحد من الحكم والمواعظ ..عندما أتى الطبيب حياه وجلس إلى مكتبه .. و ..
وتوقف تدفق الدم .. قام برش كمية جديدة من المخدر وأكمل شق الجلد بعرض الجبهة .. لم يبال هذه المرة بالدم المتدفق .. انحرف بالمبضع نحو الأذن اليسرى .. تململ الرأس ثانية وانطلقت آهة .. توقف ونظر رغما عنه للوجه المتألم أمامه ..
ظهرت علامات الألم على وجهه على الرغم من هدوئه عندما سمع قصته ثم تشاغل عنه قليلا بالعبث في أحد مجلداته .. كان ضخما ذا غلاف سميك كالح لونه .. كان كتابا لأفلاطون ! .. ترك الكتاب واتجه إليه بصره وبادره قائلا :
ــ قليل من يحبك .
ــ وهل الذنب ذنبي ؟
ــ الذنب ليس ذنبك ولكنه ..
ــ ذنب من إذن ؟ إذا كانت المصائب تنهال على رأسي بسبب وبلا سبب و..
ــ هدئ من روعك .. ما أردت قوله .. أن حالتك نادرة لم تعد تحد ث من آلاف السنين .
ــ إذن ما يقوله الناس صحيح .
ــ وماذا يقولون ؟
ــ يقولون أن جلدي لا يخفي شيئا تحته .
ــ هذا ما أراه ولعلك تراه أيضا , ولكن منذ متى وهذه الحالة عندك ؟
ــ عندما كنت طفلا كان البعض صفني بأني ناصع البياض .. حتى أن عروقي كانت تكاد تظهر من تحت جلدي وكنت أسر بلا شك لنصاعة بياضي .. ولكن معظم الأطفال كانوا كذلك, لذا لم يكن ذلك يقلقني .. ولكن ..
ــ ولكن عندما كبرت تغيرت الأمور أليس كذلك ؟
ــ بلى كنت كلما تقدمت في السن تزداد شفافية جلدي . أقصد جلد وجهي , وتزداد معها مشاكلي وكُره الناس لي .. حتى أنني لم يعد لدى أصدقاء .
ــ وهل هذا يحزنك ؟
ــ بالطبع يحزنني .. ولكن هذا ليس كل شئ فقد تأقلمت على أن أعيش وحيدا منذ زمن .
ــ ما المشكلة إذن ؟
ــ المشكلة أنني أصبحت مهددا في مصدر رزقي .. فما من مكان عملت به إلا وحدثت لي مشاكل زملائي ومديري .. وخصوصا المدير .. فهو أيا كان ما أن ينظر في وجهي مرة وأخرى حتى يصر على نقلي إلى مكان آخر .
ــ إلى هذا الحد ؟
ــ لا .. بل حاول البعض فصلي نهائيا لولا لطف الله .
ــ …………..
ــ عفوا دكتور .. أراك تتصفح كتابا لأرسطو .. وآخر لسارتر .. هذا بدلا من حل مشكلتي .
ــ لا تتعجل يا بنى سأوقع الكشف عليك فورا .. ارجع برأسك للخلف ..
شعر بألم رهيب عندما ضغط الطبيب بإبهاميه على جانبي جبهته .. و.. انفجرت آهة..
سقط المبضع منه ..تركه وأسرع يعالج الدم المندفع عند شحمة الأذن , وما زال الألم مسيطرا على الوجه أمامه .. تجاهله هذه المرة وأسرع بالمبضع إلى أسفل نحو العنق .. ( المبضع يتحرك هنا بصعوبة فالجلد سميك ) ..
ــ وهكذا .. بمرور الوقت أصبح الجلد الرقيق سميكا .
ــ لا أفهم .
ــ اسمع يا بنى .. سأشرح لك حالتك بالتفصيل , كما قلت لك من قبل إنها حالة نادرة جدا لم تعد تحدث منذ سنوات بعيدة .. الإنسان يولد وبجلده خلايا ملونة تستر ما تحته .. أما أنت فقد ولدت بدون هذه الخلايا .. هذا الأمر كان علاجه بسيطا قبل مرحلة المراهقة .. أما الآن فالأمر يستدعي جراحة .
ــ جراحة ؟
ــ نعم جراحة يستأصل فيها الجزء الشفاف من الجلد فتبقى تحته طبقة قابلة لأن تكون معتمة تستر ما تحتها بمجرد تعرضها للهواء .. ولكن ..
ــ لكن ؟
ــ لكنها غير مأمونة العواقب .
ــ كيف ؟
ــ نسبة النجاح فيها نادرة .. قليلون من عاشوا بعدها .
ــ فلماذا إجراؤها إذن ؟
ــ لأنها الحل الوحيد لك .. إن كنت تريد حلا .
ــ ليكن .. فلنجرها .. فلم يعد لدى فارق بين الحياة والموت .. لكن كم تكلفني هذه الجراحة ؟ ومتى ستجريها لي ؟
ــ لن يجريها أحد لك .. لا أحد يستطيع تحمل العاقبة .
ــ ولكني سأوقع التعهد المعروف .
ــ عاقبتها أكبر من أي تعهد . .
استبدل المبضع بآخر أكثر طولا وشرع يخلص الجلد عند الوجنتين .. ازداد الألم .. طفرت من العين دمعات .. زاد جرعة المخدر .. أصبح لا يرى بشكل واضح .. منطقة الأنف صعبة للغاية .. الدماء تغطي الوجه بالكامل ( جراحة لا يجريها إلا خبير بالنفس ) .. قاتل الله الفلسفة .
ــ ليست فلسفة .. هذه الجراحة مختلفة بالفعل عن أي جراحة .
ــ هذا هو الجنون بعينه .
ــ أحيانا يكون الجنون هو عين العقل .
لم يبق إلا منطقة العينين .. تحرك من بعيد حولها .. ( إنها مستحيلة ) رش جرعة جديدة من المخدر .. واستخلص الجزء الباقي وانتزعه .. نظر إليه بأسى لحظات ثم ألقاه في السلة و.. وابتسم فلم يستطع الابتسام .. نظر إلى المرآة .. لم يجد شفتيه .. ولا وجنتيه .. لم يلق بالا .. انطلق خارجا ويداه بجيبي سرواله .. وصفير يتردد داخله .. للحن مفقود .