من حكايات عمتي
حكاية للأطفال
أين الفطيرة
بقلم : نزار ب. الزين
عندما بلغت سليمى الرابعة عشر بدت رائعة الجمال ، و كانت تعيش مع والدتها عيشة متوسطة بما خلفه لهما الوالد من مال قليل .
لطالما سألت سليمى والدتها عن أبيها الذي لم تعرفه على الإطلاق و لطالما حكت لها أمها عن عمله الناجح و شخصيته المحبوبة و أناقته و لطفه و كياسته .
و لكن سليمى بدأت تنتبه أن أمها أخذت تكرر سرد بعض الأحداث دون سؤال :
- نسيت أن اقول لك يا سليمى أن جارنا أبو محمود استدان من أبيك – رحمه الله - مبلغا من المال و تباطأ في سداده , لكن أباك لم يطالبه حتى وافاه الأجل ، و ذات يوم قرع أبو محمود عليَّ الباب و ناولني المبلغ كاملا...يا له من رجل أمين ، فالدنيا لا زالت بخير يا ابنتي طالما فيها أمثال جارنا أبو محمود !
- يا أمي العزيزة ، و الله هذه هي المرة العاشرة و أنا أسمع منك هذه القصة ..!
تضحك الوالدة ، ثم تجيبها :
= ( طولي بالك عليّ ) يا سليمى ، فالظاهرأني بدأت أخرف !
و ذات يوم عن على بالها أن تصنع الفطائر بالجبن و البيض ، فتحمست سليمى للفكرة ثم شمرت عن ساعديها و بدأت تعاون والدتها في صنعها ؛ عندما تم إنجازها قالت الأم بشيء من الضيق :
= لم أحسب حساب خَبْزِ الفطائر ، أنا لم أعد أجرؤ على الخروج إلى الشارع ، آلام قدميّ تمنعني ، و لا خيار لي سوى أن أكلفك بذلك ؛ إنها اثنتا عشر فطيرة ، عديها و أنت تسلميها للفران ثم عديها و أنت تستليمينها منه .
و مضت سليمى إلى المخبز تحث الخطى ، دون أن تلتفت يمنة أو يسرة ، كما أوصتها أمها ، و ما أن نضجت الفطائر حتى وضعتها في السلة ، ثم عادت أدراجها نحو دارها مسرعة .
و تصادف مرور موكب الأمير بدر الدين و لي عهد السلطنة عائدا من رحلة صيد ، و فجأة انفلت أحد كلابه من عقاله ، و لحق سليمى ، فقد شم رائحة الفطائر .
جرت سليمى بأقصى ما تملكه من قوة و الكلب يجري وراءها ، و العبيد يجرون وراء الكلب للإمساك به و حماية الفتاة ، و الأمير بدر الدين يترجل من فوق حصانه و يجري بدوره ، و أثناء جريها سقط خمارها فوق كتفيها فانسدل شعرها الناعم الفاحم على جانبي وجهها فزادها جمالا على جمال .
ثم ما لبثت سليمى أن أخرجت فطيرة من السلة فألقتها أمام الكلب الذي كاد يمسك بتلابيبها ، فانصرف عنها ليلتهم الفطيرة ..
كانت سليمى قد بلغت باب بيتها ، عندما اقترب منها الأمير بدر الدين فسألها عن إسمها ، فطأطأت رأسها نحو الأرض و قد اشتعل وجهها بحمرة الخجل ، ثم فتحت باب البيت و دخلته على عجل ، ثم أغلقته بلطف و هدوء ، دون أن تجيبه .
= ما ذا أخرك يا سليمى ؟ لقد شغلت بالي ؟!ّ
سألتها أمها ، فأجابتها لاهثة :
- لا شيء يا أمي ، كان عند الخباز زبائن كُثر ، هذا ما أخرني و اضطرني إلى العودة مسرعة كي لا تقلقي .
أخذت منها السلة ، و أخرجت الفطائر الواحدة بعد الأخرى ، و فجأة صاحت كمن لدغها ثعبان :
= سليمى يا حياتي ، إنها إحدى عشر فطيرة أين الفطيرة الثانية عشر ؟ لا بد أن الخباز قد غشك !
أجابتها مبتسمة :
- أمي الحبيبة ، لقد أحسست بالجوع فأكلتها ، فردت أمها قائلة :
= ( إنشا الله عوافي و هنا ...)
و لكن الوالدة عادت بعد قليل فسألتها :
= سليمى ، أين الفطيرة ؟
- أكلتها !
- ( إنشا الله عوافي و هنا ...)
ثم تكرر هذا الحوار مثنى و ثلاثا و رباعا ، و في اليوم التالي و الثالث و الرابع و العاشر ، و سليمى تجيب أمها بدون إبداء أي ضيق أو تذمر ..
- أكلتها !
*****
لم يغب عن بال الأمير بدر الدين وجه تلك الفتاة ، ذلك الوجه الذي بدا له كقمر منتصف الشهر في ليل حالك السواد ؛ أحس أنه وقع طريح هواها ، و لكنه لم يستطع أن يصبر طويلا ، فتوجه إلى أمه ، فقبل يدها ، ثم جلس إلى جانبهه حزينا .
تنبهت أم الأمير بدر الدين إلى حالة ولدها فسألته حانية :
- ما بك يا بني ؟ هل أساء إليك أحد ؟ هل لديك نقص في عدد جواريك أو عبيدك ؟ هل ينقصك مال أو أطيان ؟ فقط اطلب و تمنى ، و سأطلب من والدك أن يجند لك جيش السلطنة ، ليجلب إليك ما تشتهي حتى لو كان ( لبن العصفور ) !
صمت طويلا قبل أن يجيبها :
= إني واقع في الهوى يا أمي ، و لم أذق طعم النوم منذ ثلاث ليالي ...
فصاحت أمه فرحة :
- هذا هو اليوم الذي كنت أتمناه ، فقط قل من هي ، ابنة أي وزير من وزراء السلطنة هي ؟ إبنة أي ملك من ملوك الجوار ؟ إبنة أي أمير من جزر البحر أو ما وراء البحار ؟ فقط قل لي من هي ، و ستكون بين يديك خلال أيام ..!
= و لكنها ليست ابنة وزير – يا أمي - و لا ابنة ملك أو أمير، إنها من عامة الناس ( و الحال على القد ) و سيغضب والدي السلطان إذا علم بأمري .. و لكنها رائعة الجمال يا أمي ، و شديدة الحياء ، و في منتهى الذكاء ، و لكن ماذا سيقول أبي ، إذا علم أنني عشقت فتاة من مستوى غير لائق بالملوك ؟؟!
ابتسمت أم بدر الدين ، ثم أجابته بثقة و حنان :
- إطمئن يا بدر الدين ، إقناع والدك مهمتي ، و سوف ترى من هي أمك .
*****
لم تتردد سليمى طويلا قبل موافقتها ، و لكنها اشترطت أن تكون أمها برفقتها !
و كان ما أرادت ...
و خرج المنادي يجوب الشوارع و الحواري يقرع على طبله و هو يدعو الناس بأعلى صوته : (( يا سادة يا كرام ، يا حبايب و يا إخوان ، اسمعوا هذا الإعلان ، فرح الأمير بدر الدين ابن السطان ، يوم الخميس الأول بعد وداع رمضان ، لا أحد يأكل أو يشرب إلا في قصر السلطان ، إنه فرح الأمير بدر الدين ابن السطان ، سبعة أيام بلياليها سيستمر المهرجان ، لا أحد يأكل أو يشرب إلا في قصر السلطان ، الحاضر يعلم الغايب و الصاحي ينبه النعسان ، إنه فرح الأمير بدر الدين ابن السلطان ! ))
ثم أقيمت الأفراح و الليالي الملاح ، رقص و دبكات ، و أهازيج و سباقات ، نحرت خلالها الإبل و الخرفان ، و انتشرت الموائد في كل مكان ، من حديقة القصر المترامية الأركان .
*****
و في القصر ظلت أم سليمى تسأل ابنتها كلما اختلت بها :
- سليمى حبيبتي ، أين الفطيرة ؟ فتجيبها صابرة مبتسمة :
= أكلتها
- ( إه ، عوافي و هنا )
ثم تدهورت حالة أم سليمى العقلية ..
ثم حالتها الجسدية ..
و بينما هي في النزع الأخير ، سألت ابنتها بفم مرتعش و بكلمات لم تفهمها غير سليمى :
- أين الفطيرة ؟
أجابتها و الدموع تبلل خديها :
= أكلتها !
ثم أسلمت روحها إلى باريها قبل أن تقول لها ( عوافي و هَنا )
حزنت سليمى على أمها ، و كان الأمير بدر الدين خير مواسٍ لها ..
و قد رجته أن تدفنها في حديقة القصر فلبى رجاءها بلا أدنى تردد ..
*****
و مضت الأيام هنيئة بالعروسين ، فما أن ينتهي من واجباته كأمير ، حتى يهرع إلى غرفته ليلاقي محبوبة قلبه و قد اتخذت كامل زينتها ، هاشة باشة ، مرحبة به بأحلى وأرق عبارات الغرام .
و ذات مساء حار ، و بينما كان الأمير بدر الدين مستلقيا و رأسه على حجر سليمى ، و بينما كانت تداعب شعره ، إذا بغصن من شجرة اللبلاب المغروسة قرب قبر والدتها ، يتسلق النافذة رو يدا رويدا .. و يتطاول قليلا قليلا ، حتى اقترب من أذن سليمى ، ثم همس :
- سليمى حبيبتي ، أين الفطيرة ؟
فانفجرت سليمى ضاحكة ..
هنا هب الأمير بدر الدين واقفا ، ثم سألها مستغربا :
- ما يضحكك مني يا سليمى ؟
و لكنها أبت أن تجعل أمها محل تندر حتى و هي متوفاة ، فأجابته مرتبكة :
- لقد أمسكت قملة كانت تعشش في شعرك !
فاستشاط غضبا و صاح بها :
- هل أصبح أولاد الملوك محل سخرية أبناء الديوك ؟
أغربي عن وجهي في الحال أنت طالق !
ثم نادى القهرمانة* فأمرها محتداً :
- خذيها إلى المطبخ ، تقشر بصل و ثوم ....
*****
بعد أيام ، و بينما كان الأمير بدر الدين مضطجعا فوق الأريكة المجاورة للنافذة كئيبا حزينا ، شاعرا بمرارة الندم لأنه تسرع بالحكم على عروسه المحبوبة ، إذا بغصن من شجرة اللبلاب المغروسة قرب قبر حماته ، يتسلق النافذة رو يدا رويدا .. و يتطاول قليلا قليلا ، حتى اقترب من أذن الأمير بدر الدين ، ثم همس فيها قائلا :
- لقد ظلمت سليمى يا بدر الدين !
فانتفض بدر الدين رعبا ثم هب واقفاً ينظر إلى الغصن مرتابا و هو يتساءل في سره : " الأشجار صارت تتكلم ؟! " ثم صاح بفم مرتعش : " إنس أم جن " و قبل أن يتنظر الإجابة أخذ يبسمل و يحوقل و عيونه شاخصة نحو الغصن ، الذي استأنف كلامه قائلا :
- لا تخف يا بدر الدين ، ما أنا سوى روح حماتك أم سليمى ، تجسدتُ في هذا الغصن لأخبرك عن سر سليمى..
ثم حكت له حكاية الفطيرة ، و أضافت :
- سليمى ابنة وفية و كبيرة القلب يا بدر الدين ، و قد تحملت مني الكثير في أواخر أيامي ، و لكنها أبت أن تجعل أمها محل تندر و سخرية ، فلفقت لك قصة القملة ، إنها تحبك يا بدر الدين و تجلك و تحترمك ، و ليس لها في الدنيا غيرك ، و هي أيضا حامل ، فصالحها ربي يرضا عليك ، ثم انثني غصن اللبلاب و ذبل .
و قف الأمير بدر الدين طويلا و قد عقد الذهول لسانه ، و لكنه ما لبث أن أفاق من دهشته ، فنادى القهرمانة آمرا بإحضار سليمى من المطبخ .
قدمت سليمى ، و قد شحب لونها ، و نقص وزنها ، في ثياب مهلهلة ، تفوح منها رائحة البصل و الثوم ، ثم وقفت بين يدي الأمير بدر الدين منكسة رأسها .
بادرها سائلا :
- ما قصة الفطيرة يا سليمى ؟
و لكن لا عليك يا سليمى ، فقد عرفت كل شيء !
فأجابته بصوت متهدج :
- إنها أمي ، ربتني و نشأتني كل شبر بندر ، و لم تحرمني من كل ما طلبت طيلة حياتي ، فلم يهن عليّ أن تكون محل سخرية أحد حتى لو كان زوجي الحبيب، فاخترعت قصة القملة ؛ و أعترف بأنني أخطأت باختراعها و لا يشفع لي إلا أنني كنت مرتبكة و محتارة بما أجيب .
ثمَّن لها هذا الموقف عاليا ، فطيَّب بخاطرها معتذرا ، و طلب منها أن تستحم و أن تعود لطبيعتها ، بينما يرسل وراء قاضي القضاة ، ليعقد قرانهما من جديد .
و عاشا – من ثم - في أمان و ثبات ، و خلفا البنين و البنات ..
( و توتة توتة خلصت الحدوتة )
----------------------------------------
*نزار بهاء الدين الزين
سوري مغترب
عضو إتحاد كتاب الأنترنيت العرب