" وبعد الغيم يجينا النور ....
وبعد الغيم ربيع وزهور "
- تعالوا نعلن الشجاعة والجرأة على تحدى أسياد هذه الحارة !
التهبت أكف أهل الحارة وشبابها من فرط التصفيق . تصايحوا كالديكة إعجاباً وانبهاراً بأستاذهم فتحى الأديب ... الذى يحثهم ببذل ما فى وسعهم لرفع البؤس عن الحارة .
- واحد شاى وخمسة سحلب .. لو سمحت .
فى إصغاءٍ شديد استمع عم صابر لهذه الندوة ... وحاول أن يفهم ما يقصده الأستاذ فتحى الأديب ... استمع للمرة الثانية ... للمرة الثالثة .... أعاد الانتباه واستحضر عقله .... كل هذه المقدمات بلا نتائج ... أو حتى نتيجة واحدة ... فما عليه إلا أن ينتهز الفرصة لزيادة إيراد هذا المقهى وإعداد المشروبات للزبائن .
- حجر معسل وحسنه واتنين شاى يا عم صابر .
- واحد شاى سكر خفيف .
- اتنين شاى براد .
- أربعة حلبة وواحد كركاديه .
- قهوة سادة يا حاج صابر .
- أهلاً سيد حضرت فى الميعاد بالضبط ... تحب تشرب إيه ؟
- شاى ثقيل يا محمود .
التفت سيد حوله كمن يخشى أن يراه أحد داخل المقهى ... فضحك محمود وتعالت ضحكته الصفراء وهز رأسه باستهزاء :-
- خايف لتشوفك أمك هنا ؟!
ارتبك سيد وازداد التفاته وارتعشت كلماته :-
- أخاف من إيه ... دى أمى ؟!
- استأذنت منها قبل ما تيجى هنا ؟!
سيد منفعلاً غاضباً صارخاً :-
- ملهاش شأن بخروجى ودخولى ... أنا باخرج زى ما أنا عايز وفى الوقت اللى يعجبنى .
محمود ساخراً :-
- أيوه ... أيوه ... تخرج فى الوقت اللى يعجبك ويناسبها هى الأول ... هى اتأخرت كدا ليه .... هاتفوتها الجلسة الأدبية بتاعة الأستاذ فتحى الأديب .
سيد بحدة :-
- محمود ... اسكت ولا أقوم على فتحى ده بالضرب وأخليه ما يساوى صرصار حوالين الحشرات اللى حواليه دول .
مازال محمود ساخراً :-
- طبعاً ... طبعاً ... تقدر تضربه لحد ما تموته وهو يستاهل ... دا أنت سيد والأجر على الله ... بس قولى ليه عايز تضربه ... عشان بيمدح فى أمك فى روايته الجديدة .
سيد بغيظ :-
- مش كده .
محمود بصوتٍ منخفض مائلاً إلى أذنه :-
- آه ... آه ... عرفت السبب ، عشان كتب قصة أمك الحقيقية وعلاقتها بابن العمدة وهروبه ليلة الدخلة ... ولا إيه رأيك يا سيد ؟!
سيد بصوت مرتفع مرتعش مهدداً :-
- ما تتعداش حدودك يا محمود .
محمود بتحدٍ :-
- اتكلم زى ما أنا عايز يا جدع وف الوقت اللى أنا عايزه .
سيد بتحذير :-
- كدا يا محمود .
محمود بإصرار :-
- أيوه يا سيد .
ضج ضجيج رهيب داخل المقهى ... وجرى بعض الفتيان وراء سيد ... والأستاذ فتحى الأديب مع رجال الحارة يداوون نزيف حاد أصاب رأس محمود .
حملوه على أكتافهم مسرعين به إلى أقرب وحدة إسعاف ... أوقف أحدهم عربة أجرة ... نزل السائق ... فتح الباب ... توقفت أنفاس محمود على أكتافهم ... طرحوه أرضاً ... إذا به جثةً هامدة ... لا حِراك ... لا أنفاس ... لا نبض ... وجدوه ساكناً كالسكون الذى أصابهم ...
توقفوا عن الحركة ... توقف المارة عن السير ... توقف الأستاذ فتحى الأديب عن الكلام ... سكن الليل ... سكن عم صابر فى مقهاه ... تسمر الجميع ... اختفى القمر ... استقرت النجوم فى فضائها ... مر السحاب الأبيض ... حلت سحابة مسودة سودت الحارة ... أسقطت المطر وأطفأت كهرباء الحارة ... اشتدت الظلمة واشتد المطر ... غسل جثة محمود ... غسل أسياد الحارة ... غسل أديب الحارة ... غسل مقهى عم صابر .. غسل أم سيد ... رعدت السماء ... برقت الدنيا ببريقِ مختلف ... زلزلت الحارة ... اهتزوا ... ارتجفوا ... خافوا أن يخطف البرق أبصارهم ... أسرعوا جميعاً داخل المقهى ... تاركين الجثة فى قلب الحارة وحدها .
قامت عاصفة من مرقدها ... أثارت التراب فى أجواء الحارة ... أغلقت الحارة أبوابها .
لم يعد يرى عم صابر أحد فى الحارة .
- كثيف جداً هذا الضباب ... لا أرى حتى نفسى .
- ولا أنا أيضاً يا عم صابر ... أين أنت ... أين صورتك ... أسمع صوتك فقط .
صاح عم صابر :-
- أين جثة محمود .... أين جثة محمود ؟!
أشار الفتى بيده :-
- هنا يا عم صابر !
- أين يا حسان ؟
- هنا ... ألا تراها ؟
- لا يا حسان !
- إنها داخل المقهى بجانب الشيش !
عم صابر متعجباً :-
- بجانب الشيش !
ازداد الضباب ... اشتد لونه ... ارتدى عم صابر والأستاذ فتحى الأديب وأهل الحارة لون الضباب .
( تمت )
سامح عبد البديع الشبة