ضرورة الخروج من المراهقة الشعرية
الشعر رؤيا، واستبصار فني، ومخاض إنساني ، وجلاء للروح، وموقف من الحياة، والنّاس، والمجتمع. إنه ثوره على الذات، والغير، وثورة على القيم البالية المهترئة، وولوج في عقيدة المرء الصحيحة وفي قيم الحق، والعدل، والخير، والجمال، والشاعر هو المحاور الوحيد الذي يخرجك من منظور الواقع إلى فضاء المستقبل، بيده مفتاح النغم، وفي كلماته مسقط التجربة الشعرية، وفي وجدانه عذاب الآخرين.
لقد ولد الفن، وانبثق من مرآة الخلق الأول، وأصبحت الذات الإنسانية قطب الوجود، وتهويمات الصمت في عمق اللاوجود.
إنّ كون الشعّر، نطفة الفكر الإنساني الذي كان أمشاجاً في عمق المادة، جعل روح الشّعراء تتمرّد على صيحات الشياطين التي تنطلق من هنا، وهناك؛ معلنة كلّ ما عدا الشِّعر، وإنّ كون الشّعراء هم النّاطق الرّسمي في لاوعي الأمة، وعقلها الباطن يجعل الحياة سفراً مفتوحاً من الانصعاق الرّوحي الّذي لم يكن قبل حركة الشّعر الوجدانية شيئاً مذكوراً.
لا أريد أن أحمل القارئ البكر إلى آفاق الحداثة التي ينفخ معظم الشّعراء في بوقها المثقوب دون أن يعو حقيقتها، وإنما أريد أنْ يطير هذا القارئ معي على جناحين من الخيال الواقعي المشروع، ليصل إلى فردوس الشّعر المفقود، أو إلى مملكة الحب الأبدية، أو الصمت، أو الموت، أو القحط والتصحّر الّذي يعيشه إنسان في هذا العصر المرفوع على أوهام الشكلية التي تهرب من الثبات إلى السقوط في مستنقع السَّاديه أو النجرسية الشعرية والأدبية.
إن الحديث عن الإنسان هو الحديث عن الشّعر فهما صنوان باقيان على مرّ الحياة وكرّها.
إن فجائية غياب الحقيقة عن الواقع الإنساني تدعو هذا الإنسان، لا أن يُعِدَّ للحقيقة عدتها، وأن يبكي بكاء الخنساء على صخر ، أو قلْ. أن يذوي أمام فجائعية رثاء ابن الرومي لولده محمد.
لقد كان الحب الإنساني، والشعر، والحقيقة أثافي الحياة الراسخة؛ لا ترتكز مراجل الخير إلا عليها، ولكم بكى امرؤ القيس ضياع ملكه، ونسي أنه؛ إنما يبكي شخصيته، وانتماءه لأمة ما فتئت تقضم أصابعها ندماً على قتل الغيله، وبكاء الأندلسيات، وصراع الجنوب والشمال.
أي ضياع هذا الذي يعيشه الشّعر في زمن انفلشت فيه حدود المعقولية، وصار الإنسان مصاباً بداء الأزدواجيه، والمازوخية؛ وتحولت حركة الشعر ، والحياة إلى دائرة ضيقة تشبه الدائرة التي يدور فيها ثور العاقية.
لا أريد أن أتباكى على أطلال الشعر، فتلك سمة العاجزين، إنما أريد أن أقترح على الشّعراء، والمبدعين ألا يعطوا لأنفسهم ابتكارات مازالت في عالم الغيب ، ومشاريع لإشباع الفقراء، والجائعين لم تخطّط بعد.
إنّ تشكيل أي فضاء لأي نص شعري روحياً يحتاج إلى حركة إنسانية تستبعد شعراء الأنابيب أولا، والقصائد اللقيطة ثانياً، وفنون الأدب التي جاءت سفاحاً ثالثا. دون أن يكون هناك عقود أصالة شرعية.
لقد اتهم الجاهليون بالبساطة، والسذاجه ، لأنهم فهموا الأدب كما فهموا الصحراء، ونسينا نحن المتمرسين بفنّ إسقاط التهم، أن الغوغائية، والدعاوى غير الصادقة في الشعر، والواقع هي التي جرتنا إلى مسارح صراع الثيران، أو قل، إلى مكاشفة السحرة، والعّرافين إن الشّعر أصبح المفتاح السحري لمغالق الحياة. أية تهمة يمكن أن نلصقها بالأدب، وقد أطبق على شفاه الحقيقة، وصارت الأيدي الأرض مالها من قرار). نواقيس استجابة واقعة في زمن رديء المواقف، والمثل التي نعيشها. إن أمراض الجهاز العصبي للشعر، وعلاقة هذه الأمراض باضطراب لغة الحقيقة يجعل قسماً كبيراً من الشعراء مصابين باضطرابات اللغة التعبيرية ، واللغة الاستقبالية ، والاكتئاب الحسي، والنفسي والشعري؛ وبالتالي الوقوع تحت وطأة الفصام الوجداني.
لن أقول لكم كما يزعم البعض:
إن الكثير من شعراء هذا العصر يحتاجون إلى عيادات نفسية لردهم إلى سوية الحياة، أو يحتاجون إلى مصحات فكرية. بل أريد أن أقف مع صف الداعين إلى ضرورة الخروج من المراهقة الشعرية، والأدبية وأدعو بأعلى صوتي إلى تحمل المسؤوليات بكل إخلاص وأمانه مسؤولية الاطلاع على صناعة الأدب، ومسؤولية حمل أمانة الكلمة التي عجزت عنها السموات والأرض والجبال، لأن الكلمة الصادقة المخلصة الأمينة هي عده الأديب وسلاحه في مواجهة العبثية والانفلاشية والسفسطة والغوغائية والادعائية.
و(مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت، وفرفعها في السّماء، ومثل كلمة خبيثة، كشجرة خبيثة اجتثت من فوق
حسين علي الهنداوي