منــاخوليا
من يكسر إشارة المرور ؟
أمام الحديقة الصغيرة يمكنك أن تراها الآن . بشعر أشعث تصبغه فضة كابية . يؤرقها ألا تكون حركة المرور منضبطة . ترفع ساعدا هزيلا فتختفي بيوت صغيرة تشرئب نحو النهر خلف كفها المهتز .
بجسدها الصغير تبدو في منتصف الميدان تماما . تواصل عملها التطوعي والشمس تطس العقول وتهري الأبدان . إلاها واقفة في صمود عجيب .
نصف ثديها الأيمن يبرز من بين رقاع الثوب الباهت ، وهي تلتفت إلى من يناديها باسمها : إزيك يا زهرة !
فتهز رأسها بإيماءة بسيطة تليق بمن يعرفون أن الوقت خلق للعمل لا للتحية وإلقاء السلام على عواهنه.
حينما مال عليها ولد صغير وبيده كوز البطاطا ، أمسكته ، وشطرته بإظفر أشبه بسكين . من المنتصف تماما فعلت ، وراحت تقضم البطاطا اللذيذة باستمتاع عجيب ، وهي تصفر بفمها محذرة سيارة مسرعة لأنها تطلق البوق في هجير الواحدة ظهرا بلا حساب .
عندما باغتها شخص غريب من غير سكان المدينة بعبارة : حاسبي يا بنت المجنونة .
هزت رأسها في امتعاض ظاهر ، ومضت في عملها وحزن غامض يتسرب لعقلها سؤال مخفور بالقلق : هل يقصدها هي بالذات؟
غير أن ابتسامات أخرى لاحقتها بعد دقائق من سبها العلني في صرة الميدان المحاط بزهور عابسة . أكدت لها أنها غير مقصودة بتاتا . لنفسها قالت وهي تسوي شعرها الأكرت المشعث : المجانين في الدنيا كتير . ربنا يستر !
الكلاب يمتنعون .
كنت أقف عند الطرف الآخر من الميدان عندما لمحته .
منكبا على عمله بدون لحظة توقف . عينان نفاذتان تكاد تخترقان الصمت والظلمة . كلب على مقربة منه يتشمم أطراف غلالات من التيل المتين مربوطة بإحكام ملقاة ومهملة عند الناصية البعيدة ، وقطط تحوم في المكان جائعة ومبتردة مع نصف ديسمبر الأخير .
اقتربت منه في توجس فوجدت يده تسرع كالرهوان بكتابة عبارات بالإنجليزية . خط في غاية التنسيق والتنميق . ملت عليه أتأمل ما يدون . لكنه زام ، ونظر نحوي في ريبة متكتمة .
عندما انتهى من خطابه الأول جذب أطراف جلبابه القديم المتنسل من أطرافه ووضعه في فمه حتى لا تسقط ورقة واحدة من كنزه الثمين . بانت ساقان متقوستان ومنهكتان تنعكس عليهما أضواء مصابيح الصوديوم لأعمدة البلدية ذات التيجان الملكية القديمة .
عاجلني بنظرة تحمل كل ما يمكن أن يصدره كائن بشري لآخر بما يحتمل أن تكون شفرتها الوحيدة الممكنة : إبتعد عن طريقي وإلا...
قبل أن تصبح " إلا " لطمة أو هبدة أو ركلة تراجعت بما يكفي لساقيه أن تنطلقان عدوا نحو صندوق البريد الحديدي المعلق على جدار مدرسة " المعالي " . أزاح بيده المشعرة الغطاء القلاب ، ثم دس رسالته ، ومضى في طريقه باتجاه معاكس .
كان العزبي مدرس اللغة الأنجليزية العبقري الذي أصابته لوثة مؤكدة يحث الخطا نحو صندوق آخر، وكنت أرقبه على البعد يبدأ في تدوين كتاباته بعد أن يضع حمل جلبابه من أوراق مكورة يفردها بظاهر يده على رصيف ينظفه بطرف كمه. ، ثم يواصل كتابته وهو يرطن بانجليزية رصينة : no.. no..dog"".
حرامية الصيغة .
للسماء ينظر، ويباغتها بطلقته الأولى المصوبة في قلب "وحيدة "الخائنة التي غدرت به وسرقت ماله وتعب السنين : " يا حرامية الصيغة " . ينقل قدميه خطوات محسوبة ثم يكمل بقية الدعاء ونظره شاخص نحو أعلى لكأنها تسكن في قصر منيف ، عال ، تطل منه على ضحيتها البائسة : " يجيء لك داء السل!" .
يتربص به المطر فلا يهتم بالسيول التي تغمره ، ولا يسرع بخطواته تحت مظلات المحال التي عكست مصابيحها ضوءا شحيحا مبتلا . لحيته نابتة ومهوشة ، أما مشيته فصرت أحفظها من طول ما تعودت رؤيته . من خلال شباك حديدي صغير يطل على شارع سوق الحسبة كنت أراه في ضجته المعلنة : " روحي ياحرامية .. منك لله " .
قلبه ينبض ، فيكاد يبين من تحت الثوب الناعم الملتصق ببروز بطن ضامرة ، وفي عينيه شرود هائل وانكسار مريب . يمضي في المطر وهو يصاعد نظرته أكثر فأكثر نحو القصر المنيف المتعالي بأسواره المنيعة ففيه تكون " وحيدة " وقد أخفت " المصاغ " بما فيه من ذهب لماع ولؤلؤ فضاح ، وجواهر كريمة من زمرد وياقوت . تومض في ظلمة العقل وهو ينفض إرهاقه في دفقات موجعة من اللغة .
" حامد " يمضي والنساء الفاتنات داخل مخادعهن ، والرجال في أسرة من القطيفة فرشها ناعم ووثير ، فيما هو لا يكل ولا يمل في ملاحقة الخائنة التي غدرت به .
حين يتوقف ويترجل عن حصان حديدي يركبه أحيانا يقف في مواجهتها . يكف لحظة عن الدعاء ، يسمع صوتها مبحوحا ومنشطرا ، مترددا بما فيه الكفاية ليصمت . تقول له : " أنا لم أخنك مرة . أنت الذي ذهبت إلى هناك وتركتني لهذا العريس الذي لم أحبه مثلما أحببتك. مات في قلبي الحب تماما عندما أخذتك الرعدة وطمست عقلك آلاف التهويمات المظلمة ".
هي اللحظة التي يستريح فيها من دعائه الموجوع قبل أن ينفض عن عقله غبار كلامها الماجن فمن يستطيع أن يدلس عليه، ويقنعه بغير الذي رآه في مخدعها. هو على حق تماما في أنها سرقته وامتصت عرقه . أخذت الذهب كله، وكيس الجواهر ، واختفت مع عريس آخر ، وأبقت له السماء مشرعة الأبواب كي تتلقى دعاءه العاجز الحزين.
فارق توقيت
كان الفجر موشكا على الطلوع عندما انبجست في روحه مياه غزيرة فاضت وملآت الكون كله حتى أنه شعر بنفسه يسبح في لجة زرقاء . وتصور أن النجوم تومض له كعناقيد من عنب تتدلى من سقف حجرته ، وهو يمرق عبر الجدران لكي يتماهى مع هذه القباب اللطيفة .
حين هزته يد أمه قال لها أنه لم يشبع من النوم ، فقط عليها أن تمنحه نصف ساعة . نصف ساعة لا أكثر ، وسوف يجد الوقت مناسبا لاستكمال مذاكرة كتب القانون الضخمة .
راحت عليها نومة ، ولما الشمس دخلت حجرته كانت قد فاتت ساعة كاملة على بدء امتحان الكلية . نزل مسرعا استوقف تاكسيا ، وأمام بوابة الجامعة هبط منشطرا ومدحورا . راح يجري داخل الكلية باتجاه السرادق الكبير لكنهم منعوه .
لم يكن هو التحدي الوحيد الذي صادفه ، لكنه أدرك أن الزمن هو الذي يتحكم في كل هذه الأشياء ، ومن يرد أن يحقق تفردا فعليه بملاحقة الزمن الهارب .
لم يستطع أحد أن يمنعه ، وهو يجري في الشوارع والميادين ، وشاطيء البحر ، ومسطحات الحدائق الخضراء . وكانت يد العميد التي وقعت قرار الفصل بناء على الأشهر القليلة التي قضاها في المصحة تتحرك طيلة الوقت في وجهه .
برابطة عنق متأنقة وبدلة صوفية يبدأ العدو الصباحي الذي لا يتوقف إلا لحظات . مجرد لحظات لا يؤبه لها ، وحين يتوقف للحظة يشعر بالصفير يجتاح أذنيه ، ولكي يتمكن من اللحاق بمواعيده في توقيت مضبوط عليه أن يجري بأقصى سرعة .
وعليه أن لايقتنع بهمهماتهم ، ولا بمقولاتهم بأنه قد منع لسنة واحدة إذ أن قبضته أسرعت بلكم المعيد الذي منعه من دخول السرادق فكان القرار . لم تنفعه الدموع التي سالت دما وأبحرا ، ولقد وثق بأن الزمن وحده هو الذي عانده .
أمين مفيد مرسي الشنوتي ، ستجد الاسم هوهو مع رقم البطاقة الشخصية ، وبطاقة الجامعة ، ورقم الجلوس ، والوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك.
في طفولته جاء التومرجي وقطع قطعة جلد صغيرة تحت السرة ، بين فخذيه تماما ، أحس بالألم ، دمعت عينا أمه ، أما هو فصرخ ، وقد وبخه الأب لأنه سيكون رجلا في المستقبل ، وعليه أن يكتم ألمه.
يبوح لمن بسر الوقت والسرادق كان ينهار رويدا رويدا على رأسه وأمه تبكي لأنها نامت ، وهو الفتى النابه الوحيد لأبوين فقيرين ؟
فقد الاحساس بالوقت ، وراح يعالج هذا الخلل ، فاشترى ساعات من كل شكل ولون ، ومنبهات تدق في توقيتات مضبوطة ، وساعات جيب بغطيان ملساء من الفضة ، لكن الصفير لا يكف .
وهو يجري ويجري حتى لا يفوته موعد ، وحينما يتفصد العرق على جبهته وينحدر مياها مالحة في عينيه يجري أكثر حتى يوقف هذا الصفير . ليته يكف لحظة عن التسلل لصيوان أذنيه .
ليتهم يتركونه في حاله ، ولا يعترضون سرعته بقطع الطوب التي تلقى في طريقه الذي لا يعرف أبدا كيف يصل لنهايته في التوقيت المناسب .
حاملوا النعش
ليس هناك حدود للموت . ليس هناك بداية متيقنة للحظة استلال الروح من الجسد. للحزن غلالات ضبابية تتداخل لتمنح النفس سكينة الهدوء , وللموت ذبذبات تترنح من وقعها الأنفس الحائرة حين تتخبط بين رحى الوجود والعدم .
" حكمة " ، ومن فضلك ضع 3 فتحات قبل أن تقابلك التاء المربوطة كفيونكة في نهاية الكلمة هو أحد متتبعي الموت في سيره الخصوصي في شوارع وأزقة المدينة ، وفي مواربة الأبواب لحظة المروق الصامت ماعدا صوته المتحشرج كأنه النفس الأخير بكلمة تهتز لها النفوس وترتج القلوب : " وحدوووووووه" .
هو واحد من متخصصي حمل النعوش ، مهما كانت قيمة الميت أو رتبته وقبل أن تظهر " تقليعة " السيارة التي تحمل النعش كان لابد من وجود أربعة رجال أشداء لحمل النعش في طريقه إلى المدافن.كان أحدهم هو " حكمة " وعلى الحانوتي تدبير ثلاثة آخرين فهو حاجز دائم للخشبة خاصة التي تكون في المقدمة اليمنى فثوابها أكبر من الخشبات الثلاثة الباقيات وهذا طقس معلوم في حساب الأموات.
أين يعيش حكمة ؟ لا توجد إجابة وحيدة مقنعة عن أماكن مبيت هذا الرجل الكالح المزوّرة عينه ، فهناك أربعة أقاويل لكل منها وجاهتها.
المقولة الأولى أنه يسكن مع الموتى ، فيبحث كل ليلة عن مكان آمن بين حدبات القبور ، وينبش في التراب حتى يرفع الغطاء الثقيل ثم يندس في الحفرة العميقة حتى طلوع الصباح.
المقولة الثانية أنه يتسلل إلى عزبة العمدة رضوان حيث الغيطان مثقلة بمحاصيلها من قمح أو أذرة أو قطن فيهبط بجسده في مسارات معلومة ولا يظهر لإنسان حيث أنه قد خاوى الكلاب والذئاب وبنات آوى من زمن وقاسمهم المبيت في مثل هذه الأماكن الفسيحة خلال مواسم ما قبل الحصاد . وما يدعم هذا الرأي أن العمدة رضوان نفسه كان يمر بنفسه في أرضه راكبا حماره حين تعثر " الحمار " وسقط العمدة على ظهره ، فأحس بجسد آدمي طري له رائحة نتنة لاتطاق كرائحة الجثث المتعفنة ، وقبل أن يفتح فمه بكلمة عاجلته يد مخشوشنة تزغده : ماتفتح يا أعمى . ولما كان العمدة له شنة ورنة فقد أخفى الخبر عن الناس وفتشه "حكمة " في لحظة تجلي.
المقولة الثالثة أنه متزوج من جنية تسكن في تجويف شجرة جميز عتيقة لها تجويف خفي في جذع تسكنه ال" بسم الله الرحمن الرحيم " يعني لامؤاخذه العفاريت .
وهو من أصول جنية بدليل أنه حين يغضب تحمر عيناه وتطقان شررا بحق وحقيق . وقد اعترف المنجي المتولي بأنه رآه يضاجع الجنية في ليلة خريفية متربة ، فلما أحس به استوقفه وهو يرتجف ـ أي المنجي ـ وقال له بالحرف الواحد : لو فتحت فمك بحرف فستسخطك " الجنية " في الحال وتحولك إلى كلب أجرب . فرد الرجل بتمتمات مبهمة بما معناه : " السر في بير" . لكنه وكما يؤكد المتابعون لأسرار مدينتنا أن كفا قد هوى على قفاه ـ كنوع من التوثيق الشفاهي ـ فبرقت رعودا ، وهو ما ينفيه المنجي نفيا قاطعا.
المقولة الرابعة هو ما انتشر في المدينة انتشار النار في الهشيم أنه يسكن النعوش المتهالكة في حوش المشرحة بجوار المستشفى الأميري القديم وفي الطريق لبيت مولانا محمد علوش . والدليل على ذلك ما تناقلته الألسن الناقصة من أن عاملا يشتغل في مصانع الغزل . كان يمشي في طريقه إلى بوابة رقم 2 لمصنع الغزل والطريق خال . وكان قد نسى ساعته ، وفيما هو يحدث نفسه : " مفيش حد ابن حلال يقول لي الساعة كام ؟ ". فإذا بغطاء النعش يُـفتح في تلك اللحظة بالضبط لتطل رأس ملساء باحمرار قاتم مخيف مع شعر غزير في الجانبين وإذا بالرأس المطلة من النعش تنطق : " الساعة خمسة ونصف ياأخ " .
وقد وقف شعر العامل وكان اسمه نصحي ، ومكان إقامته قرية " ميت الشيوخ " ، ودفعا للذعر الذي ألم به ، من كون جثة ترقد في نعش قد دبت فيها الروح ، و نطقت ، قال بما يشبه الاعتذار :" شكرا يا أستاذ ".
فرد الناطق في الدلجة المغبشة بنور خفيف : " لا شكر على واجب ياابن ستين كلب " .
دخل نعشه ، وهو ـ أي نصحي ـ لما تجاوز بوابة 2 ، وهو يكاد يهر من الخوف ، حكى الواقعة ، ووصف الرجل فصاحوا في صوت واحد : نعرفه . إنه " حكمة " .
لا يهمنا الآن أين يبيت " حكمة " ولا من أين يحصل عما يسد به رمقه فهو يرفض أية صدقة ، ويشتال النعش بلا مقابل . فقط لا أحد يعرف كيف اختفى فجأة ، فحين مات العربي وهدان من قرية " المنيا" أحضروا ثلاثة رجال أشداء وبقيت الخشبة الرابعة في انتظار ه . تصايحوا في الخلاء كما كانوا يفعلون حين يتأخر وهي مرات قليلة كي يجيبهم كعادته: " حاضريا بقر " .
في هذه المرة لم ينطق حكمة ، ولا خرج من غيطان العمدة رضوان نفس ، ولم يرد على صيحات الرجال بصوته الأجش الذي يشبه الفول المجروش . وخشي أي فرد أن يحتل مكان حكمة .
كانت أول جنازة نعش على الأكتاف يشتالها ثلاثة رجال ، ولما صار الأمر صعبا اقترحوا حاملا رابعا من أهل الميت أي بلا أجر . وبقى مكان " حكمة " فارغا حتى أنجبت المدينة " حكمة " جديدا !
* كتبت هذه النصوص يومي 8، 9/7/ 2006