لقمة عيش وزوادة
مأمون أحمد مصطفي
- 4 -
وأخيرا وصلت السيارة باقة الشرقية، ترجل العمال وهم يحمدون الله على سلامة الطريق، وبدأوا يتوزعون على جوانب البيارة فرادى. هي خطوة أدركوها بالتجربة، فالذهاب لداخل البيارة كمجموعة يلفت النظر، ووقع الأقدام الكثيرة فوق الأوراق الجافة ليس كوقع قدمين، والاهم أن موت شخص واحد أقل ضررا من موت مجموعة كاملة، وقبل الدخول وكالعادة بدأ الجميع بسؤال الأهالي عن الطريق وأي المسالك اليوم أكثر أمنا؟ وهل مر قبلهم عمال آخرون أم لا؟ أسئلة روتينية، لكنها قد تقرر في لحظة واحدة حياة أو موت.
بدأ العمال دخول البيارة، حقل الألغام، بيارة الموت والرعب، بدأوا بدخول الخط الفاصل بين الموت والحياة، يتهامسون: \" أنت ازرق من هون \"، \" وأنت انفد من هون \"، \" دير بالك على حالك \"، \" انتبه وين بتحط رجليك \"، \" إذا حسيت بخطر ارجع \"، \" ربك الستار \"، \" الله الحامي \". وتفرق الجميع بين صفوف الشجر، خطواتهم، نقل الأقدام، الالتفات المشوب بالحذر الشديد، القرفصة المتكررة لرؤية المسافة المتبقية من بين سيقان الأشجار هروبا مما تحجبه الأغصان المتشابكة المتدلية المغطاة بالأوراق، الأنفاس التي تختلف بانتظامها وانطلاقها، كل هذه الأمور تدل وبشكل واضح على حجم الخوف والرعب المصاحب لمحاولة اجتياز البيارة من اجل الوصول للطريق المؤدي ليوم عمل شاق ومرهق. نفس الموقف، نفس الخوف والرعب، التحسب والتوقع، الحذر والانتباه سترافق رحلة العودة من العمل، لمن تكتب له عودة أصلا. فكثير من العمال يضطر تحت ضغط صوت الرصاص وأزيزه المتواصل للعودة إلى بيته وهو يحمل هم الحواجز وهم لقمة عيش لم يتمكن من اصطيادها.
وفجأة دوى الرصاص في البيارة، رصاص كثيف متواصل، يمشط الأرض والشجر، صرخت الأشجار، تأوهت، ارتجت الأرض وشهق التراب، بدا الثمر بالتساقط السريع، الأغصان تفسخت. وصمت الرصاص مرة واحدة، صمتت البيارة، صمتت الأشجار، توقف التراب عن الشهيق. وجموع والناس على الشوارع تقف مشلولة، مكتسحة، لا تعرف ماذا تفعل، ولا تدري شيئا عما وقع داخل البيارة. النساء على نوافذ البيوت وأسطحها تدعوا باسم الله الواحد أن يحمي الرجال الذين قادتهم لقمة العيش إلى داخل البيارة، تلك النساء اللواتي يعرفن معنى لقمة العيش المستلة من بين أنياب المدافع والدبابات.
صمت شديد، حارق، يعذب النفس، ويقلب التوقعات والتحسب على نار الانتظار، استمر الصمت فارضا كل غموضه وأسراره على كل شيء لفترة طويلة جعلت الناس تفقد صبرها الناتج عن الخوف من مجهول ما يمكن أن يحصل لو تحركوا لدخول البيارة، لكن الصبر نفد، انتهى، وعلى بعض الرجال الدخول للبيارة ليعرفوا ماذا حصل، فربما هناك جريح ينتظر وصولهم كي يسترد جزءا من روحه التي تتلاشى لحظة وراء لحظة.
مجموعة من الرجال الذين كانوا يرصدون البيارة دخلوا وبأيديهم زوادات طعامهم، قذفوا الزوادات بعيدا ودخلوا، دخلوا وهم يتلون آيات من القران الكريم، بحذر شديد أتقنوه كانوا يتحركون، يبحثون بين الأشجار، بين السيقان، وعلى الأغصان المتكسرة والمتدلية لتغطي مساحات واسعة من الأرض، والصمت لا يزال يلقي بقوته وسطوته على كل شيء. حبات البرتقال والليمون تلاشت رائحتها، اندثرت، ليحل محلها رائحة دخان الرصاص المتناثرة أغطيته هنا وهناك، كل هذا الرصاص من اجل وقف لقمة عيش، معركة من جانب واحد، كلف رصاصها لوحده ثمنا أغلى بكثير من لقمة عيش منقوعة بدم البشر الذين تركوا خلفهم أفواها مفتوحة وأحشاء فارغة.
وجاء صوت من احدهم: هنا، تعالوا هنا، لا اله إلا الله محمدا رسول الله، يا رب سترك، إنا لله وإنا إليه راجعون. في هذه اللحظة بالذات أحست أم إبراهيم بضربة عميقة تصيب قلبها، تمتمت لجاراتها: \" الله يستر، قلبي سقط بين قدمي \". وتحلق الرجال جميعا حول الجسد المنخول بفعل الرصاص الكثيف الذي اخترقه. وجه جميل باسم، تفوح منه رائحة عرق زكي، عرق خاص، ممزوج بفرحة أطفال وأم، عرق لقمة عيش طاردته حتى اصطادته داخل بيارة برتقال وليمون، وتحت سيقان واغصان منحته من خضرتها ونسغها وداعا خاصا، ومنحها من دمه وروحه بقاء خاصا.
كان ممددا على ظهره وبيده اليمنى كيس فيه زوادة، وعيناه تتجهان نحو الزوادة تماما، تحديقته بالزوادة، لون عينيه، شكلهما، يوحي بأنه لا زال حيا. تردد الرجال كثيرا قبل أن يسبلوا عينيه، أحسوا بأعماقهم بان بين هذه العيون وتلك الزوادة علاقة خاصة مميزة، لكنهم في نهاية الأمر سبلوا عينيه وحملوا الجثة برفق حتى لا تتساقط أجزاؤها وتتقطع، فالرصاص الكثيف مزقها تمزيقا كاملا، وأي حركة غير محسوبة قد تؤدي لتساقط أجزاء من الجسد، وهذا ما لا يريد الرجال حدوثه.
ظلت الجثة تنتظر في السهل الواقع على طرف المخيم ساعات، فالاقتحام الذي بدأ صباحا للمخيم لم ينته بعد، والدبابات، المجنزرات، المصفحات، المروحيات، المقاتلات لا تزال تحاصر المخيم من كل الجهات. القذائف، الرصاص، الصواريخ تحاصر كل شيء، وما يحدث الان فوق هذه الأرض، ارض المخيم الصغيرة، لا يعرف العالم عنها شيئا على الإطلاق، صراخ النساء، رعب الأطفال، الشباب المكدس كأكوام من الأكياس، والعجائز والمسنين الراعفة قلوبهم، كل هذا محتجز الان في كيلو متر واحد، والرجال في السهل يحتفظون بجثة تنتظر الدخول للمخيم.
وبعد ساعات، ساعات ثقيلة، اختفت المروحيات والمقاتلات، تراجعت الدبابات والمجنزرات والمصفحات، واندفع الناس من بيوتهم، وتقاطرت مجموعات من القرى المجاورة، الجميع يفتش، ينبش بين الدمار، بين الأزقة، وعلى أسطح المنازل، يبحثون في كل مكان، في كل شيء، يحملون جرحاهم ومن كسرت عظامهم، يتدافعون نحو المشفى بسرعة وقوة، وفي غمرة هذه اللحظات المعبأة بالانفعال، دخل المخيم مجموعة من الرجال يحملون بين أيديهم جثة في يدها اليمنى زوادة.