الذى ثأر لضحاياه!!!
- ولله بريء، حرام عليك، أولادي مَن سيربيهم، منك لله.
كانت هذه الكلمات تتردد داخل عقل المهندس (مهران عبد السلام) - أحد وأهم المهندسين الذين يعملون بالشركة العالمية لتصنيع اللحوم - عندما غادر ساحة المحكمة، بعد النطق بالحكم في قضية مقتل رئيس حسابات الشركة، وسرقة خزانتها، كان المتهم الأول في هذه القضية (ناجي إبراهيم) حارس الأمن المسئول عن وردية الأمن الليلية بالشركة، صدر الحكم بإعدامه، وذلك بعد الشهادة التي شهد بها المهندس (مهران عبد السلام).
أخذت هذه الكلمات تمور في وجدان (مهران) إلى أن وصل إلى منزله، دخل إلى غرفة نومه، ألقى بجسده المنهك على السرير، عيناه زائغتان، كلمات (ناجي إبراهيم) تحاصره من كل ناحية.
- والله بريء.. حرام عليك.. أولادي مَن سيربيهم.. منك لله.
أطلق فجأة مهران ضحكة ليس منبعها القلب، بل من غابة سوداء نبتت داخله، حوّل نظره إلى المرآه أمامه، حدّق فيها طويلا، قائلا لنفسه بطريقة تهكمية:
- هه.. (منك لله).. (منك لله)!
أخذ يضحك بطريقة هستيرية، حتّى انقطعت نوبة الضحك بصمت وهدوء شامل، انتهى به إلى النعاس، كأنه أراد أن يطبق المثل الشعبي المعروف" "نوم الظالم عبادة"!
دق جرس الباب مقتحمًا الصمت الذي خيّم على المكان، استيقظ (مهران) من سباته العميق مفزوعًا، قام من سريره مترنّحًا، متجهًا ناحية الباب ليعرف.
- من؟.. من بالباب؟
إذا برجل عجوز يوحي صوته أنه أقام حلفًا قويّا مع الزمن:
- افتح يا مهران
قام مهران بفتح الباب بحرص شديد، رجل عجوز ممزق الملابس، مغبرّ الوجه، صنعت الأيام بظهره منحنًى، أثقلت حركة قدميه، بدأ الرجل بالتحرّك داخلا شقة مهران بخطوات بطيئة.
- من أنت؟
- [مبتسما]: ألا تعرف من أنا يا مهران؟
أخذ (مهران) يحدّق في وجهه متطلعًا إليه، معيدًا قرص ذاكرته للوراء، ولكن لم يعثر بذاكرته على أي شيء يدلّه على هذا الرجل الغريب.
- من أنت، وكيف عرفت اسمي؟
جذب العجوز كرسيّا من المنضدة جالسًا عليه.
- اجلس يا مهران.. اجلس
جلس مهران وقد وصل إلى قمة الذهول
- ألا تعرفني يا مهران؟
- لا.. لا أعرفك!.. من أنت، وماذا تريد؟
بادره العجوز فجأة:
- أنت القاتل يا مهران
- قاتل؟.. قاتل مَن؟
- أنت من قتلت محاسب الشركة وسرقت الخزانة!
هب (مهران) واقفًا وكأنما لدغه ثعبان:
- أي محاسب وأي خزنة؟.. أنا لا أعرف عمّاذا تتحدث!
- لماذا يا مهران؟.. ألا يكفيك ما فعلته في دنياك؟
صرخ فيه مهران:
- انطق أيها الرجل: من أنت؟
واصل العجوز كأنما لم يسمعه:
- أصبت زوجتك بالجنون، أدخلتها مستشفى الأمراض العقلية بيدك، كي تستولي على ثروتها التي تركها لها أبوها، حين علمت أنها كتبت ثروتها لابنتك، قمت بقتلها بسيارتك.
انتفض مهران مذهولا، وهتف:
- أنت.. أنت كاذب.. زوجتي كانت مجنونة، ابنتي ماتت في حادث سيارة وهي تعبر الطريق.. أنا لم أقتل.. لم أقتل.
- اجلس يا مهران.. اجلس
جلس مهران بتثاقل، همهم العجوز بهدوء:
- أنا أعرف عنك كل شيء يا مهران.
- انطق.. من أنت؟
- ألا تعرف من أنا؟
- نعم أيها الكاذب، لا أعرف من أنت.. هيا اخرج من بيتي.. هيا.
- بيتك؟.. هاهاهاهاه.. بيتك الذي اشتريته من صفقة اللحوم الفاسدة، التي أدخلتها مصنعك، راح ضحيتها العشرات، كان من أولهم أعز أصدقائك الدكتور (محمود توفيق) الذي لفقت له القضية؟!
انهار (مهران) مرتميًا على كرسيه، وهو يهمهم مصدومًا:
- من أنت أيها الرجل؟.. كيف عرفت عني كلّ هذه الأشياء؟
- ماضيك مشين يا مهران، مليء بالجرائم التي لم تفكر لحظة واحدة وأنت ترتكبها في..؟؟
همهم مهران شاردًا، كأن الكلام أفلت من فمه رغمًا عنه:
- أنا لا أنام.
- هل أنت نادم يا مهران؟
- على أي شيء أندم يا رجل؟
- على ما فعلته
- ماذا فعلت؟
- بعد كل هذا تقول ماذا فعلت؟.. ألم تفكر في أطفال هذا الرجل الذي أوصلته إلى حبل المشنقة بيديك؟.. ألم تفكر في زوجته؟.. ولكن كيف تفكر في أطفاله وزوجته، وأنت قتلت ابنتك الوحيدة بيديك، حكمت على زوجتك بالموت؟
- زوجتي كانت لا تحبني.. كانت تشعرني دائمًا أنها أفضل مني.
- انتقمت منها، سلبت مالها، أكملت جريمتك بقتل ابنتك.
- خطأي الوحيد أنني قتلت ابنتي، كنت أعمى، لم أرَ شيئا غير..؟
- أنت نادم يا مهران؟
- نعم نادم.. أنا بشر ولا بد أن أخطئ و..
- لكن ندمك هذا شعرت به متأخرًا يا مهران!
- أنا حقّا نادم وأريد أن أعود لله عله يغفر لي ذنوبي ويرحمني.
- أمامك الفرصة الأخيرة، من الممكن أن تذهب للنيابة، تعترف بجريمتك، تنقذ هذا الإنسان الذي وقع اليوم في بيت عنكبوتك السّام.
وضع (مهران) يده على مقدمة عنقه:
- أنا أفكر في ذلك عن جدّ، أريد أن يكون إعدامي تكفيرًا عن ذنوبي السابقة التي ارتكبتها، علّ الله يقبل توبتي.
- صحيح يا مهران؟.. أنا سعيد جدّا لسماع هذا الكلام.
- آه يا شيخ.. نسيت أقدم لك واجب الضيافة.. تشرب قهوة؟
- نعم جزاك الله خيرًا
- قهوتك مضبوطة أم سادة؟
- مضبوطة
عقّب مهران ناهضًا:
- مثلي تمامًا
وغاب عن ناظري العجوز، ليدخل المطبخ، كان شيطانه قد بدأ يلعب بعقله، هذا الرجل يعرف عني كل شيء، إذا لم أعترف أنا بجريمتي، من الممكن أن يبلّغ هو عني النيابة، أُعدم، أموت مفضوحًا بجرائمي، لا بد من الـ.
وقعت عين مهران على زجاجة صغيرة بدولاب المطبخ مكتوب عليها...؟؟
أمسك مهران الزجاجة بيده، وضع بعضًا منها بفنجان العجوز، خرج من المطبخ، حاملا صينية عليها فنجانا القهوة.
- تفضل.. علّ قهوتي تحوز إعجابك
- شكرًا يا مهران
- تفضل يا رجل.. اشرب قهوتك
بدأ العجوز في احتساء القهوة، ومهران يتابعه بعينين مشتعلتين، ويسأله:
- لكن يا شيخ، أنت للحين لم تخبرني من أنت؟
- بعد كل هذا الحديث، لم تعرف من أنا يا مهران؟
شعر مهران بألم مفاجئ في معدته، جعله يطلق صرخة حادّة، فسأله العجوز بنفس هدوئه:
- ماذا دهاك يا مهران؟. ماذا بك؟
لا.. لا شيء.. لا شيء.. من أنت يا رجل؟.. من أنت.. آه.
- دقق في وجهي، وسوف تعرف من أنا يا مهران.
همهم مهران، وقد بدت على وجهه سكرات الموت:
- أنا لا أعرفك.. لا أعرفك.. آه.
- سوف تموت يا مهران.. أردت قتلي، فقتلك الله.
هبّ مهران واقفًا وهو يترنّح، محاولا خنق العجوز:
- قتلتني يا رجل.. قتلتني.
فدفعه - العجوز - دفعة قوية، ألقاه على الكرسي.
- من أنت أيها الرجل؟.. من أنت؟
- للآن لم تعرف من أنا يا مهران؟
نظر له مهران بعينين زائغتين، بدا له العجوز، كأنه يكتسب شبابًا كلما اقترب مهران من الموت.
أشار إليه مهران وقال بصوت متحشرج:
- أنت.. أنت.
ثم سقطت يده، خيم الظلام بعدها على المكان، كأن الدنيا أرادت أن تغمض عينيها عن رؤية جثته.
في الصباح، سقط شعاع الشمس عابرًا من النافذة، على جثة هامدة ملقاة على الكرسي، أمامها صينية عليها فنجان واحد فقط!