البيت المهجور
وتلألأت خيوط ذكاء الذهبية بفيض نور سخي سرى عبقه في روحي ووجداني الصغير، لم أسأل أختي عن كتبي أين أخفتها، وبدأت أقفز كالجرادة المتوثبة وأنا أدندن "أمي تحبني، أمي تحبني"، وصلت التل، دخلت من الشارع الثاني، أي قدر ذاك الذي دفعني إلى تغيير طريقي، وتنهدت، لقد أضعت موضع الشق، أغمضت عيني أستعيد في ذاكرتي من أي الجهات وجدته كي أسرع الخطا إليه، مؤكد أن العجوز تنتظرني، أما قالت: ستجدني يا آدم كلما جئت إلى هنا!!
وقررت البحث عنه، رأيت في منعطف الشارع خرابة أو بيتاً مهجوراً تداعت أكثر حيطانه وأسقفه، اقتربت منه بهدوء وثمة امتعاض خفي زارني وأنبني " لاتفعل يا آدم !!" لكنني فعلت !
تلفت من حولي مرتبكاً لا أدري ماذا أفعل، تلمست الجدار الذي وقفت أمامه، كانت توجد فتحة تتسع لجسمي الصغير، وكأي طفل يحب المغامرة دخلت من الفتحة، رأيت على يميني درجاً شبه متصدع، صعدت عليه وأنا أرتجف، غمست يدي في جيبي أتفقد مصروفي، صار معي عشر ريالات، خامرني شعور بالدفء أنني أملك مالاً، فجأة سمعت صوتاً غريباً وحركة غير عادية، كنت قد أصبحت على السطح، اقتربت وملت برأسي الصغير كي أرى من يوجد هنا، تخشب جسمي، تحولت أشعار جسدي إلى مسامير من بولاد ، شعر رأسي انتصب مثل المسلات، يا إلهي ماذا أرى، من هؤلاء، ولماذا هم يختلفون عن أشكال البشر، عرفت أنني قد وقعت بمصيبة لن ينجيني منها أحد، ميت هنا لا محالة، وانحنيت جالساً القرفصاء وأنا مبلل بالعرق الذي أصبح يسح على جبيني ومن شدة خوفي لا أدري كيف بولت في ملابسي.
اصطادت عيناي ما يفعله الغول الكبير، بدا لي أنه كبيرهم لتكرشه واهتمام الجميع بما يأمرهم، ومما لفت انتباهي علب "البيبسي" المتراكمة التي كانوا يملؤون داخلها الغراء، علمت فيما بعد أنها مادة لاصقة تستعمل في ورشات صناع الأحذية تحتوي على مادة مخدرة.
أجالت عيناي النظر في المكان من العالي، بيوت مدينتي أصبحت بعيدة عني، ومن هنا أرى امتداد الصحراء الصامتة في اتجاه الجنوب، والشمس بدأت تطوق روحي بحرارتها الملهبة، صداع دار في رأسي، ودهمتني رغبة في البكاء، فانغمست أهدابي بدموع صامتة، أسمع صوت جلبة غير عادية، أمط رأسي بعد أن مسحت دموعي، كانوا يشفطون الرائحة بواسطة أنابيب دقيقة، يتقدم رجل من الرجل المتكرش يضع أمامه صندوقاً، يفتح الرجل الصندوق، يتقدم رجل آخر يرفع عدة إبر يضعها في جيب جلابيته ويدخل غرفة أكثر حيطانها مفتوحة على شقوق طولية وعرضية، تتملكني رغبة جامحة في النزول من الدرج والدخول إلى الغرفة لأعرف من يوجد فيها وماذا يفعلون، هاهي صوت عجلات سيارة شرطة تقترب من المكان، ينزل منها ثلاثة رجال على أكتافهم نجوم وسيوف، أقول في سري لقد انكشف أمرهم وأمري ولن ينجيني من وقعتي لا العجوز التي تخلفت عن مكانها ولا صرخات كل المسلمين في البيت العتيق، لكن المفاجأة أكبر من أن يحتملها عقلي الصغير الذي كبر قبل أوانه على مشاهد غير مألوفة لديه، كما كبر على ضرب وتسفيه وتجريح بأنني ابن غجرية جاءت مصر من مدن الجزيرة السورية لتضحك على عقل أبي وتستنفذ منه ماله الذي جمعه بعرق الجبين.
وانطفأت مخاوف الطفل الصغير حين غادرت سيارة الشرطة المكان وبدأ هؤلاء يخرجون فرادى وكان آخرهم الرجل المتكرش وصاحب الصندوق.
نظرت إلى ساعة يدي، بقي مع ساعة واحدة على موعد الانصراف، إذن الجولة لي، نزلت بهدوء، دخلت أرض الحوش، كانت هناك روائح ما تزال تتعشق الجدران، حملت علبة "بيبسي" قربتها من أنفي شعرت بشيء غريب يدخل رئتي، رميتها أرضاً فأصدرت صوتاً جعلني أختلج في مكاني، دخلت الغرفة، رأيت كوماً من إبر فارغة، وضعت إحداها في جيبي وخرجت أروم العودة إلى البيت قبل أن ينكشف أمري .
الشمس توشك أن تنفجر من شدة الحرارة ورأسي يكاد أن يشتعل ليعلو لهيبه ويصل أعنان السماء، لكنني وصلت، دخلت البيت، أسرعت نحو الحمام، غيرت ملابسي، وبدأت بغسلها خشية من انكشاف ما فعلت بسروالي، فهمت أختي أنني بولت بملابسي فضحكت عليّ وأضافت فوق تجريحها السابق وكمان "شخاخ" ، ساءني أن أحصل على وصف جديد يعنكب الحب في داخلي ويجعلني لا أفكر سوى بالانتقام منهم واحداً واحداً.
وأخرجت من جيب صدارتي الإبرة والريالات العشر وأخفيتهما فوق ظهر الخزانة، ورأيت أن أستريح بعض وقت فأمواج رحلة اليوم الغريبة لا تغادر رأسي الذي ما زال يشكو من حرارة الشمس.