كان يضربها بحذائه .. بقسوة مختزنة فى أعماقه منذ زمن .. كان ينظر إليها .. حصاته الصغيرة .. وكأنها لخصت الدنيا كلها فى ذراتها الجامدة .. كم يعشق فكرة أنه يضرب الدنيا بالحذاء .. لكنه كان يفكر أحياناً كم هى مسكينة .. لا تقدر على الفرار .. فحذاؤه ورائها بالمرصاد ..
فكره مُتخم بالأحزان رغم سنينه القلائِل .. يحمل فى قلبه هماً .. أو ربما كان الهم هو من يحمله ويمضى به بلا حول له ولا قوة .. وكان يضم يديه لصدره ..كأنه يستبقى ذكرى أيام سعيدة مضت .. أو كأنه يضغط على قلبه ..ليتحمل آلام الواقع المر ..
ظل يضرب حصاته .. ويلاحقها ..حتى سمع صوت سيارة المدرسة من خلفه .. فمد يداً وإلتقط حصاته بسرعة .. وانطلق ليتوارى بين الناس .. راقبهم من بعيد ..رفقاء الدراسة وهم بالسيارة المسرعة .. حتى إختفوا من أمامه .. لم يكن ليتحمل أن يرونه سائراً .. لأن أباه لم يعد يملك ثمن وجوده بينهم ..
وانطلق فى طريقه المعتاد .. الذى يدور به دورة واسعة - بلا مبرر واضح - ليصل مدرسته .. لكنه لم يكن يملك ألا يفعل .. لم يكن ليدع يوماً يمر دون أن يتفقدأحوال حياة ماضية ..
سار بهدوء بجوار السور المغطى بالأوراق الخضراء .. نعم .. لقد بدأ يزهر .. فهذا الوقت من السنة هو موعد تفتح زهور الياسمين .. أزاح عن كتفه حقيبة كتبه الثقيلة .. ألقاها أرضاً و وقف عليها بأطراف أصابعه .. أطل بعينيه من فوق السور .. و رأى العجوز يروى الشجيرات الصغيرة .. ترى هل تذكر ان يروى حوض الزهور الصغير الخاص به هناك .. وامتد بصره حتى رأى أرجوحته .. وأشجار الموز العالية .. ونقشاً باللون الأحمر خط به أحرف إسمه الأولى على النافذة البعيدة .. دار برأسه ثانية .. لتصطدم عيناه بالعجوز يرقبه فى صمت فانزلقت قدماه وسقط على الأرض .. فر هارباً إلى مدرسته .. وبرأسه دوامة من الكلمات ..أرجوحتى .. وصوت أمه من بعيد يدوى ..ماذا فعلت بنا .. ماذا فعلت بنا .. حجرتى الجديدة مظلمة .. البورصة .. وعينا العجوز ترمقه .. تخنقه .. تطرده .. إنها النهاية ..
وصل إلى مدرسته .. وألقى بحصاته على الأرض .. وامتدت قدمه لتضربها بكل قوته ..إلى قرص الشمس ..