أتعرف.؟ مثل بيضة كبيرة، كبيرة جداً معلّقة بالفضاء، يتوسطها خط يقسمها إلى قسمين ليسا على قدر من التساوي.
عليها قبائل من النمل، كل يسير في اتجاه، بعضها إلى فوق، وأكثرها إلى تحت.. منها ما يقترب أو يترّبع على إحدى القمتّين، وما يركض بينهما..
هل أدركت ما أعني.؟
نتحدث عن نصفين.. تكتبون أكثر عن ناس النصف الأسفل.. السؤال هو أي موقع على ذلك القسم.؟
وهل تصلون إلى القاع..؟
قال وهو يحاول إخفاء ابتسامة:
- أعمل محرراً في جريدة يومية.. أجد نفسي أكثر ما أجدها وسط هموم الناس المسحوقين، وفي فقرهم ومعاناتهم..
تجلس على الأرض، تنثر الودعات الخمس، ثم تلتقطها بسرعة..
- أتعرف.؟ المرء لا يختار قدره.. يولد هكذا، في النصف الأعلى أو في النصف الآخر..
ولآن الحياة مقدّسة، تفرض عليه فعل مجاهدة للبقاء على قيد الحياة على أحسن تقدير.. لابد أن يصل به الأمر على الغالب إلى تصاريف مضحكة.. أقول لك:
- عندما لا تجد سبيلاً للبقاء على قيد الحياة غير البحث في الطرقات عن الإقامة والقوت، لابد أن تبحث أول ما تبحث عن حماية، وعليك من أجلها أخذ احتياطات السلامة..
تبحث عن بسطاء تضحك عليهم، أو عقلاء يضحكون عليك وأنت راض..
- تزوجت بالأجرة.. نعم هكذا، أربع فتيات اتفقنا على اختيار رجل يضمّنا إلى عصمته، نتزوجه ونحمل وثائق زواج رسمية شرعية فيها أقصى حماية لنا من ملاحقة دوريات تشجيع السياحة وتلميع البلد، وقمع الدعارة، والتسول والتسكّع..
حماية مثالية مقابل أجرة يومية ندفعها كل مساء إلى ولّي نعمتنا، المتربّع وراء دلال القهوة المرّة، وإبريق الشاي الخمير في مضيفة تزينها الطنافس وترتع فيها الخنافس..
وسؤال مسائي تقليدي.. ماذا جلبتن..؟
المصيبة عندما يأتيك شرطي يبلغك لزوم إخلاء بيتك المشاد خلسة، لأنه يقع على أرض "أملاك خاصّة"..
* * * *
عند حضورها في المرة القادمة سيدعوها للدخول إلى البيت، فلم يعد من اللائق أن يجلسا على درج البناء.. ونظرات الجيران تقول ما تقول..
نظر في المرآة، وكاد أن يطلق ضحكة كبيرة. لكنه تمالك واكتفى برسم ابتسامة ساخرة..
ماذا لو يعرف زملاؤه في العمل طبيعة العلاقة بينهما..؟
وهل وصل به الأمر إلى هذا الحد.؟
توجّه إلى المطبخ، ومنه نفذ إلى الركن الذي يحلو له أن يسميه الحمّام..
وهو في الحقيقة لا يعدو جرناً من البلاستيك، تحت حنفية نحاسية، وطاس من الألمنيوم الرخيص..
ابتسم مرة أخرى..
تعود أن يردد في مناسبات كثيرة أمام زملائه في الجريدة، الحديث عن حمّام ساخن قبل النوم، أو في الصباح أول ما يستيقظ.. أو (دوش) بارد كلما وجد الرغبة في ذلك.. فالحرارة المصحوبة بدرجة رطوبة مرتفعة، لا تطاق..
في فصل صيف كهذا، يكاد المرء يخرج من جلده وهو يراقب شواءه لحظة بلحظة..
يقولون 41 درجة.. الحرص على ألق الموسم السياحي، له دور هام في الإعلان عن درجة حرارة معقولة..
الساعة الثالثة تماما، الشمس تتوسط السماء، والشارع خال من المارّة، والفضاء أيضاً خال من الذباب ومن كل من يطير بجناحين..
طرقات خافتة على الباب، وصبيّة طويلة القامة، ترتدي عباءة سوداء بالية، على رأسها منديل أبيض متّسخ، وبين يديها صرّة.. تبادره بصوت عذب..
- الله يسّلم شبابك.!
كاد يصفق الباب، ويعود إلى هدوئه الأول، لكنّها تمدّ رأسها وتنظر بعينيها الواسعتين إلى داخل الغرفة اليتيمة، ثم تعاود النظر إليه..
- الله يسلّم شبابك..
ترمي الصرّة على الأرض، وتجلس، تخرج من بين ثنايا ثوبها الفضفاض خمس ودعات، تهزّها، ثم ترميها..
- انتبه لنفسك.. غداً ستقابلك موجة حمراء.!
يفغر فمه دهشة:
- موجة حمراء..؟
أغلق الباب، وهزّ رأسه بسخرية.. وأطلق ضحكة..
في فصل صيف كهذا.!
تنصّب أشعة الشمس مستقيمة تماماً، لا شيء على الإطلاق يقف في وجهها، تجعل مقابض الأبواب مثل طناجر البخار.. وتجعل بلاط الفسحة السماوية أشبه ما يكون بفرن..
ينظر في المرآة إلى وجهه المبلل، وشعره السائب، فيبتسم مرة أخرى..
في الساعة الثالثة ستحضر كالعادة، ستطرق الباب طرقات خفيفة..
صنع لنفسه فنجان قهوة.. وأمسك رزمة من الأوراق البيضاء المشطّبة، تظهر عليها كلمات واضحة..
"كيف تُسرق أراضي أملاك الدولة وتصير.. أملاكاً خاصّة..؟"
من يقدر على فعل ذلك..؟
هي معركة إذاً.. لا تعنيه.. إن بدأها يعرّض أوصاله للتقطيع، يعرف أن فبركة أمور كهذه لا يقدر عليها إلا الكبار، الكبار جداً..
* * * *
نزل الدرج مسرعاً، وقبل أن يتلقّفه الشارع، اصطدم رأسه بزاوية الباب الحديدي..
بعد لحظة كانت الدماء تغطي وجهه..
في المستشفى، عندما قالت له الممرّضة..
- باب كبير طويل عريض وتصطدم به مثل الأطفال.! الله ستر، الجرح لم يكن عميقاً..
ساعتها تذكّر صبيّة الأمس، وموجتها الحمراء.. لكنّه لم يكترث..
في الساعة الثالثة من اليوم التالي، جاءت الصبيّة، جلس معها هذه المرة على عتبة البيت وقتاً أطول بعد أن رفضت باستحياء تخطي عتبة الباب..
أبعدت اللثام عن كامل صورة وجهها ليكتشف أنها على قدر من الجمال والحسن، وأشدّ ما لفت انتباهه لون عينيها البنيتين، لم يسبق له أن رأى عيوناً بهذا اللون الغريب..
أمسكت كفّه.. قالت بصوت دافئ..
- أنت شاب أعزب، مثقل بالديون، تحب القهوة، تقف على أول طريق طويل تترصّدك فيه صبية جميلة، عليك أن تأخذ حذرك منها، تحاول عن قصد التسبب في إيذائك.. لكنك تنتصر في النهاية، وتحقق ما تطمح إليه.. لا تسألني كيف.. خط الحياة في كفّك، غامض..
قالت جملتها الأخيرة بصوت خافت وبكثير من التحفظ، بينما استمر بحركات من رأسه على تشجعها على الاستمرار محاولاً إقناع نفسه بأن كل ما قالته وتقوله لا يعدو وصفاً لأحداث يمكن أن تصادف نصف الناس إن لم يكن أكثر..
فجأة أخرجت من صرّتها شيئاً، ألقته بسرعة بين يديه، وأردفت..
- احتفظ بهذه الموسى، أعتقد أنك ستحتاجه في لحظة ما..
وبحركة لا شعورية، نثرت الودعات على الأرض، ثم أطبقت كفّها عليها..
- ماذا تشتغل يا أستاذ..؟
- موظف.. محرر في جريدة..
قال وهو يحاول إخفاء ابتسامة..
لكنّها ضحكت وهي تتمتم:
- وهل الكتابة شغل.؟
- أكتب في السياسة والاجتماع.. أتكلم عن مشاكل الناس وهمومهم..
رسمت نظرة جدّية على وجهها وأردفت بثقة:
- ولكن الودع يقول لي غير ذلك..
- الودع.! ماذا يقول..؟
ابتسمت بصفاء، وأبعدت ناظريها عنه وهي تجمع الودعات وتعيدها إلى طيات ثوبها..
* * * *
نادية رئيسة قسم الإعلانات في الجريدة صبية جميلة بل فاتنة، أحسّ أنها تبدي اهتماماً خاصاً به..
- لا يمكن أن تتسبب في إيذائي..
راح يحدث نفسه..
صحيح أنها تشعر بامتياز وتفوّق لكونها ابنة مدينة، ولكن هذا الأمر لن يقف أمام جموح عواطفها..
في الصباح ينتظرها، يشاغل نفسه بقراءة عناوين الصحف المعروضة في الكشك المجاور، يبادرها بتحية يشحنها بفيض من الرقة، ولا بد أن يبدي لها اهتمامه وإعجابه بفستانها، أو تسريحة شعرها، أو بطريقة مشيتها، ثم يدعوها لفنجان قهوة في مكتبه..
- نزار بيك.. ينوي القيام بحملة دعاية ضخمة ترويجاً لمشروعه السياحي التجاري الرائد الجديد، "مسبح ومطعم وناد ليلي وفندق على مستوى خمس نجوم" وقد اختارني مديرة هذه الحملة..
تنظر إليه بعينين ناعستين وتهمس في أذنه:
- يتحدث عن خمسين ألف ليرة.!
تمسك يده، وتقترب بوجهها من وجهه، فتلفحه رائحة عطر أنثوي نفّاذ..
- لا داعي لإثارة المشاكل..
تقولها وكأنها توجه له رسالة..
* * * *
جرى الأمر بسرعة فائقة.. امرأة تحمل حقيبة كبيرة، وتعلّق طفلها على كتفها الآخر، تنزل من "السرفيس" على عجل، يغلق السائق الباب بكبسة زر، فيطبق على رباط حذاء الطفل بينما تبدأ السيارة بالتحرك، وحده يراقب ما يجري..
وبحركة لا شعورية يخرج الموس من جيبه، وينقّض، ثم يقطع رباط الحذاء العالق..
في اللحظة نفسها، يخفق في محاولة مستميتة لقراءة الخطوط في كفّ يده..
* * * *
اقتربت الساعة من موعد نشرة الأخبار المصورة.. جلس يحتسي القهوة..
بعد لحظات أطل المذيع الوسيم، وبدأ تلاوة عناوين الأخبار..
جبال من القمامة تجتاح بيوت مئات الفقراء في الفيلبين.. تصريح لرئيس لجنة تشجيع التطبيع الموريتاني مع إسرائيل.. أربعون ألف دولار تكاليف حفل زفاف بين قرد وقردة..
مجازر في راوندا.. اكتشاف مقابرجماعية في كوسوفو.. ليبيا ومشروع ولايات متحدة إفريقية..
* * * *
في المصعد، تنظر ناديا إليه بسخرية، ترفع خصلة من شعرها المسفوح على وجهها المغطى بالمساحيق الملونة والعطور الثمينة..
- أنتم الفلاحون لا تقرؤون، ولا تنظرون إلى أبعد من أنوفكم.. وهيهات أن تدركوا بأن العالم يتبدل، والبقاء للعولمة.. الشاطر يا عزيزي من يلتحق بإحدى عربات القطار..
أمسك الطبعة الأخيرة من الجريدة.. وألقى نظرة حزينة على ورقة تحمل أمراً إدارياً بالاستغناء عن خدماته ملقاة على الطاولة، كانت في انتظاره ساعة مغادرته مبنى الجريدة، قرأها مرة أخرى على عجل.. وابتسم..
كيف اخترق مقاله الأول حواجز الرقابة إذاً ونشر، ولم يعترضه أحد.؟! حمل عنواناً ملفتاً كتب بخط أسود عريض:
(بيوت الفقراء على أرض أملاك دولة، تنقلب إلى فنادق وملاهي حضارية تواكب العصر..)
أطل على الشارع من نافذة غرفته الصغيرة المتربعة على سطح أربعة طوابق..
بائع بطيخ، يلفّ رأسه بمنشفة مبلّلة، ويشقّ بصوته وطرقات حوافر حصانه المتعب، صمت الظهيرة المحرق..
(عالمكسر يا بطيخ..)
أشعّة الشمس تنسج في فراغ الفضاء غلالة قاتمة تقتل كل ما يطير بجناحين..
أحسّ برغبة شديدة للنوم فاختار موقعاً تحت المروحة المعلقّة بالسقف..
لم يكن بحاجة للاستيقاظ باكراً، كان لديه متسعاً من الوقت بل الوقت كله للتأمل والتفكير..
وكأن شبحاً عملاقاً وقف فوق رأسه تماماً وراح يصرخ..
لقد قبضوا عليها متلبّسة بتهمة التشرّد..
ـ ـ ـ