[QUOTE
ديكارت ابتدع منهجية جديدة شجاعة للبحث والنقد الأدبي والفلسفي. يقوم مبدأه على حد قول طه حسين في كتابه "في الأدب الجاهلي" على ما يلي:
"أن يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل، وأن يستقبل موضوع بحثه خالي الذهن مما قيل فيه خلوّا تاما".
مثلا، إن أردنا أن ندرس أفلاطون، يجب علينا أن نطهر أفكارنا وعقلنا من أقوال أرسطو ومن أقوال الفلاسفة الذين نقدوا أفلاطون ومن جميع ما تعلمناه حول أفلاطون وعلى الأخص أن نتجاوز المقدمات التي يضعها المترجمون وغيرهم في فاتحة ترجمات أعمال أفلاطون، فنمضي بفكر خالي نقي لنقرأ أفلاطون في مصادره الأصلية بعيدا عن كل ما من شأنه أن يبني فينا فكرة مسبقة أو حكما مسبقا على أفلاطون وأفكاره. في هذه الحالة، وفي هذه الحالة فقط، يمكن أن أقول بأنني أنا الذي أقرأ أفلاطون ولا أكون متأثرا بفكر شخص آخر.
"ابن رشد " الفيلسوف المسلم الأندلسي في كتابه "فصل المقال فيما بين الفلسفة والدين من اتصال" نجد نهج الفلسفة حاضر في طريقة معالجته لطبيعة العلاقة بين الدين والفلسفة..فقد نص منهجه على ضرورة التخلص من الأفكار المسبقة والرجوع إلى أصول الفكر من اجل الوصول إلى الحقيقة ..ويقصد بذلك أصول الفكر الديني الإسلامي ..أي القرآن والسنة..
دعوة ابن رشد هذه مبنية على إدراكه أن الشك هو عكاز الطريق الموصل إلى معرفة جوهر الدين .. والشك يجب أن يمارس حتى فيما حصل حوله إجماع..
هذا يعني أن مقياس الحقيقة ليس هو الإجماع والاتفاق بل العقل والعقل وحده..لكن ليس أي عقل بل العقل الذي يستند على مبادئ وأسس علمية موضوعية بعيدة عن السفسطة والظن..إنه العقل الذي لا يبني أحكامه على الشهوة والعواطف والمصالح الشخصية..
و لاشك أن منهج ابن رشد هذا لا يمكن أن يكون منهجه الخاص بل هو منهج كل فيلسوف يتوخى السعي للمعرفة وكشف الحقيقة..
كان منهج "ابن رشد" سابقا لمنهج " ديكارت" بزمن سابق على ظهور الفلسفة الحديثة ..
ولم يكن الفارق الزمني بينه وبين ظهور منهج "ديكارت" كبير فهو لا يتجاوز العمر الذي يسمح للفلسفة لتنشأ من جديد كما نشأت عنده بعد الغزالي وبعد غيره من الفلاسفة المسلمين السابقين على نشأة فلسفة ابن رشد..
لماذا إذن نقيم هذه العلاقة بين فيلسوف هو ديكارت وبين آخر هو ابن رشد؟
عصرهما مختلف..يدشن ديكارت عصره بنقل منهج الرياضيات إلى الفلسفة..
فما طبيعة المنهج الرياضي الذي دعا ديكارت الفلاسفة الجدد إلى السير على نهجه؟
ذلك هو السؤال الذي سيجعلنا ندرك القطيعة بين مرحلة ابن رشد ومرحلة ديكارت؟
فليكن حديثنا عن هذه القطيعة وسيلة لإدراك الطريقة التي تتقدم بها المعارف والعلوم..
هذا هو ما يهمنا معرفته.. لكن المعرفة لا تكفي بل يجب أن يكون لها تطبيق في سلوك حياتنا..وإلا فنحن سنكون مجرد مستهلكي الثرثرة..وهذه الصفة القدحية هي ما تخشاه وترفضه الفلسفة الجادة..
كثيرون يعتبرون الفلسفة ثرثرة وإلحاد..
لكن هؤلاء الذين يحكمون سلبا على الفلسفة هم يستخدمون عقولهم بشكل سيئ ..إنهم يحتاجون إلى معرفة أنفسهم بأنفسهم ولكن بواسطة محاور ومولد للأفكار ذاك الذي كانت أمه تولد النساء ..إنه سقراط رائد "المايوتيك" أو الحوار التوليدي .. إنه روح الفلسفة إذ تنطلق من فضح ما لا يتصل بها ..بجوهرها.. وغايتها..
إنهم بلغة" ابن رشد" يحتاجون إلى معرفة تامة بطرق البرهان..
أليس البرهان سمة تتصل بممارس الفكر الرياضي؟
نعم توجد علاقة وطيدة بين الفلسفة والرياضيات على مستوى المنهج والغاية..
لكن هيهات أن يدعي عالم رياضيات أنه يملك المعرفة بسائر المواضيع خاصة تلك التي لم يجد لها العقل لحد الآن إجابة واضحة..
ماذا لو تم الوصول إلى معرفة الحقيقة بشكل مطلق؟ هل سيكون تمة جدوى من طرح الأسئلة؟ بل أسيكون ثمة من جدوى لوجود الإنسان؟
وماذا عن ممارسة الشك؟ أسينتهي بانتهاء تقديم كل الإجابات عن الأسئلة الإشكالية؟