حياة عادلة .. فقط .
منيرة الإزيمع
9/7/1424
06/09/2003
سرت كثيراً على قدمي قبل أن أصل للكورنيش منذ نزلت من السيارة التي أقلتني إلى هنا ، المكان هادئ على غير عادة .. جلست على مقعد إسمنتي بقرب البحر وألقيت بكتاب " عبقرية عمر " للعقاد بجانبي ، يفصلني عن البحر عدة صخور بيضاء كبيرة مرصوصة على طول الشاطئ ملطخة بالزيت ، مر أمامي عدد من البشر صامتين مهذبين ، وكأن شيئاً لا يحدث ومنذ العام تقريبا ، تساءلت هل ما أراه حقيقياً هل يعنون فعلاً ما يبدو عليهم ، لا يبدو طبيعياً ما يحدث وإن بدا واقعياً ، فليس من العدل أن تكون شيئاً لا تستطيعه ، لقد عاش عمر آدميته بعبقرية معجزة لا تزال حية تعبق بالطيب تفوح حولي في كل مكان ، كان من الصعب مجرد المحاولة فهناك فرق كبير ، ومن الظلم وليس من الدناءة فقط أن تتظاهر بذلك أو أن تكون شيئاً لا تستطيعه ، لذا فكرت بأنه من العدل لي على الأقل أن أبحث عن أي شيء أستطيع أن أكونه فهذا مخرجي الوحيد من هذا الجحيم الذي إن لم أكن فيه فعلاً فستذهب بي إليه قدماي الآدميتان هذه المعلقة في جسدي ، لذا فكرت بأن من الذكاء أن أكون أفعى ، لكنني وجدت هناك الكثير أفضل مني في ذلك ، ثم إنني لا أحب اللدغ فقد عانيت الكثير منه ، سأكون حية فاشلة وسأُضرب حتى الموت قبل أن أتمكن من لدغ أحد ، كما يفترض بي أن أفعل كحية حقيقية تمارس حياتها الطبيعية بكل عفوية ، ثم تخيلت نفسي تمساحاً ، ولكن كم كرهت ذلك عندما اكتملت الصورة في ذهني فقد كنت تمساحاً غبياً أخرقاً ، بذيل قصير ونحيل وفم متساقط مفتوح ببلاهة ، كانت محاولات كئيبة ومملة لكنها أفضل من الاستمرار بحياة غير متكافئة ، وحينما كنت على وشك اليأس خطرت لي أجمل فكرة في حياتي ، لم لا أكون عنكبوتاً فليس هناك أجمل من حياة العناكب ولا اهدأ منها ، ثم لن أسأل نفسي بعد اليوم لما تركتهم يموتون في " بانيالوكا " أو" العراق " وغيرها وحيدين بدون حتى أن أصلي عليهم أو أن أبكيهم ، لن أشم رائحة جثثهم ولن أسمع صياح الأطفال المبعدين عن أمهاتهم ، آه كم عانيت من ذلك ، لقد كان صراخاً لا ينتهي ، لا تهدأ حناجرهم الصغيرة حتى الموت ، وما يحدث لهم في فلسطين .. لا أدري هل ستنسيني حياة العناكب كل هذا الشقاء ، لن أخسر كثيراً فلم يكن هناك من المتع في حياة البشر ما يستهويني بقدر( أن أكون نفسي )ولم أفعل أو أنا أضعف وأجبن من أن أحاول حتى . لا .. هذا كذب لقد حاولت في الواقع ولكن ذلك لم يكن مجدياً ولم يكن كافياً .. لذا اعتقد بأنني سأكون عنكبوتاً منسجماً مع نفسه راضياً عنها إن لم يكن سعيداً بها ، فحياة العناكب بسيطة جدا وغير مكلفة .. كان البحر هادئاً وبعيداً عما يدور في رأسي .. فوجئت بعائلة خلفي تجلس على العشب لم أفطن لها ، هل كانوا هنا قبلي أم أتوا بعدي!! كانت عائلة صغيرة زوجان وطفل ، بدا المكان أقل هدوء من قبل ، وبدا البحر ممتداً على مرمى البصر كبيراً قوياً هادئاً لا يكترث ، وكان ضوء القمر يلقي عليه مزيداً من الرهبة والوقار .. التفت إلى الضوضاء خلفي ، كان الطفل يثيرها ولكن والده نهض إلى السيارة بجانب الرصيف وجاء منها بكرة ألقى بها ناحية الصبي الذي قفز ناحيتها مبتسما ، أمسك بها ثم القي بها مجددا.. قذفها ناحية والده ، أعادها الأب إليه ثم جلس بجانب زوجته التي كانت تحتضن لفائف من الدانتيل الأبيض والقماش الفاخر أعتقد أنها تحتوي على طفل آخر ولكن أصغر بكثير ، انشغل الصبي كثيراً بكرته يقذف بها ثم يركض خلفها ، كانت الأرض مائلة جهة البحر لذا كثيراً ما تتدحرج هناك وتردها الصخور الكبيرة ، وفي إحدى المرات تدحرجت الكرة قرب قدمي وأتى مسرعاً خلفها , ولكن سرعته خبت فجأة واقترب ببطء ينظر إليّ ، شعرت بخوف ( هل أبدو عنكبوتاً من الآن سوف يدهسونني بأقدامهم قبل أن أصل إلي أي جدار ) التقط الصبي الكرة وانطلق راكضاً ناحية أهله .. كم الحياة سهلة و لا تكلف كثيراً عندما تعيشها هكذا ، لكن هذا الصبي لن يظل هكذا ، سيكبر ذات يوم ويعرف أن للحياة تبعات أبسطها ألا تقف متفرجاً على ما تراه عيناك ، فقد تكون شريكا في ذلك بطريقة ما ( آ ه لماذا أفعل بنفسي ذلك ، كل هذا انتهى الآن لقد حاولت أن أكون أنساناً طيباً ومتعاوناً والغريب مسلماً ، لكن كان كل ذلك بمنتهى السخف والتواطؤ. أي حياة هذه في حين كان قومي يذبحون ويمثل بهم فيما أنا لا أستطيع حتى أن أبكيهم ..آه كل ذلك انتهى الآن فلدي حياة أخرى أقل تبعات وأكثر هدوءا ) تقافزت الكرة محدثة دوياً على الأرض .. وصل الصبي بعد أن توقفت حركتها المطبطبة كليا، نظر إليها ثم إلى الصخور ، انحنى والتقطها ، ثم قذفها بقوة ، طارت الكرة عالياً ثم سقطت خلف الصخور ، توقف برهة واضعاً إبهامه في فمه ، التفت خلفه ناحية أبويه وأصابعه لا تزال في فمه ثم التفت للبحر ، أخرج إصبعه من فمه وبدأ يصعد الصخور، كان يصعد بصعوبة ، وعلى أنني لم أكن قريبة منه إلا أنني كنت أسمع صوت تنفسه بوضوح ربما كان يعاني من الربو فقد كنت أسمع أزيز صدره (تبدو حاسة سمع الكعناكب قوية)نزل بسرعة أسرع مما صعد ، ولم أعد أراه لكنني كنت أسمع ضوضاءه التي يثيرها ركضه خلف الكرة التي ذهبت بعيداً ناحية البحر ، ثم ظهر رأسه الصغير يعلو ويهبط بتعب من الركض خلف الكرة الجامحة ثم ظهر باقي جسده متجهاً للبحر ، لم أعد أسمع صوت تنفسه الصعب لكنني كنت أراه يركض ويضرب الأرض بقدمه وحبات الماء تتقافز كوراً بلورية تحت قدميه ، كانت ساقاه القصيرتان تلوحان ، يبدو ركضهما مضحكاً في هذه المرحلة فسيقانهم الصغيرة تبدو سيقاناً حقيقية ، كان الصغير يتجه بسرعة إلى البحر ، التفت بطريقة لا تليق بعنكبوت ناحية أبويه فإذا انشغالهما بما في تلك اللفائف مستمراً ، يتناقلانها بعناية ويتبادلان النظر داخلها ويحدثانه بلغة تشبه لغة الطيور ، عدت والتفت بسرعة ناحية الصبي صاحب الكرة .. لم يكن هناك سوى البحر والكرة وأنا مجرد عنكبوت.