رحلة باتجاه واحد
وها هي مدينتي ، تلك الغريبة في عقر دارها ، تطفىء مصابيحها عند الغروب قبل أن تضيء!
تعتم قبل الليل ، تنام ملء جفنيها دون وعد بنسمة، أو بسمة تزيح الكآبة ..
هي لا تعرف أن الليل جميل ، صاخب يضج حياة وراء ستائرها الثقيلة . روحك يا مدينتي ، تلك الروح الصحراوية الرجع ، ألِفتْ الجدب رغم تلك التلال التي تفيء عليك الحب آناء الليل وأطراف النهار ..
تحضنك في صقيعك والأصياف ..و تلك البيوت الحجرية البيضاء التي يصر ساكنوها على إنبات اللون
في حدائقهم المصنوعة ضد منطق الأشياء ، فينمو ويزهو ويشرئب يبخ العبير .. ألا يكفي ؟؟ألم يتحرك قلبك الحجري؟ فمتى إذا؟؟ ألم تتململ روحك الهجير؟
حتى نحن أبناؤك ترضعينا الغربة كل مساء مع غروب شمسك الجميلة .
يمر المشهد في إثر المشهد سريعا ، مختزلا كل التفاصيل ، كأنها سجلات الذاكرة الكابية منذ سنين ،
أُعيدَ فتحها في لحظات ، وها هي صفحاتها تُقلب بسرعة تضاهي سرعة المشهد .. دفقات من الهواء
المحمل بالغبار ، تتسرب من شق النافذة المسرعة أَماماً عندما تتقابل مع مثيلتها القادمة باتجاهها ،
فيصدر صوت فرقعة ، يجعلني أحس بثقل في رأسي ، أكاد أصرخ ، أغلق فمي ، أغمض عينيّ .
يمر المشهد ويتلوه آخر ، وسيل الذاكرة ما زال في تحرك معاكس لتحركي ، أنا أتقدم بتسارع إلى
الأمام في الطريق الممتدة دون إيقاع صاعد أو هابط ، وهو يتدفق عبري إلى ما ورائي ، يختفي .. يمّحي.
وتُقطع صفحة ، وتُلقى في الهواء تحملها ذرات غباره إلى مكان ما .. ربما تلتقطها ذاكرة ما ، تعيد كتابتها .
توقف التسارع .. خفت النبض وانداح الثقل عن أذنيّ . فتحت عينيّ على وسعهما لأودع المشهد
وأنتهي منه كله دفعة واحدة..
نزلت وسرت بظهري إلى البوابة الزجاجية التي تُفتح آلياً لدى إحساسها بدم يسري في شرايينَ ولحمٍ وعظم، ليس يهمّ إن كان الوعاء الحامل إنسانا أو قطة أو كلبا.
وعبرتها ، تلك البوابة بظهري وأنا أنظر إلى حقيبة جلدية سمحت لها بأن تحشو نفسها ببعض أشياء
تخصني ، وكلما سرت خطوة للوراء ازدادت المسافة خطوة من الأمام .هكذا هي الأشياء تزيد بقدر النقصان .. كانت الحقيبة ترنو لي تستدعيني من مكمنها هناك قرب النافذة المتوقفة .
وضعت يدي في جيبي وتحسسته ، هذا الدفتر الصغير العجيب الملآن أختاما ونقوشا وحروفا متعددة الألوان والأجناس .يكفيني هذا . وأشحت بنظري عن الحقيبة واستدرت أنظر إلى مكان آخر سيحملني
إليه هذا المسترخي في جيبي .
أحكمت قبض أصابعي عليه ... نظرت إلى العينين المتسائلتين أمامي وأنا أمدّه ، أقدمه .. هززت رأسي
مرتين .. لا .. لا حقائب .
__________________
__________________
حنــــــــان
2006