رائحــة الخشــب
كنت أرسم بقلمي الصغير حدود الدنيا بين ضفاف مدينتي، قدر لها ان يحصرها النيل بزرقته، والبحر بأمواجه، أنظر ناحية البحر فأتعثر بنهاية العالم، استدير ناحية النيل فيواجهني بمنتهى الجمال، بنيت معتقداني الصغيرة ان مدينتنا هي الأرض الشاسعة، وما دون ذلك من أمكنة جزر عالقة بمياه البحر الممتدة، أغمض عيني، أنام كما النيل في أحضان البحر، أصبح على تلك الدقات المتتالية، المنتظمة، تنظمها جواكيش النجارين، الكلمات الصباحية تهشم أقفال ورش النجارة الصغيرة 'يا فتاح يا عليم.. يا رزاق يا كريم.. أصبحنا وأصبح الملك لله'، أشم رائحة الخشب المطحون، أتلذذ بها، أستعيد معها أيام إجازتي الصيفية، حيث الحاقي بإحدى ورش النجارة للعمل، ذلك ما تجري عليه العادة في مدينتي العاشقة 'دمياط'، بل كان تعلم الحياة هو الغاية من هذه العادة، كل شيء في الورشة كان له في ذاكرتي مدلوله الخاص، الغراء بأبخرته الساخنة، يترك داخلي صورا للخوف، أرتعد منه، من سطوته، طغيانه، يغلي فوق الموقد الحجري، يلهث بفقاقيع ملتهبة، أكتم أنفاسه بفرشاة كبيرة، يستعين بها 'المعلم' ليفرض هيبتها على ألواح الخشب المسكينة، كانت 'المنجلة' تمثل لي رمزا للقيد، السجن، بل للموت أحيانا، يعتقل 'المعلم' يد المذنب بين شفرتيها الخشبيتين، يشد عليها بقوة كقطعة خشب صغيرة أبت الانصياع للتشكيل، يأتي يوم الخميس أجمل أيام حياتي، يوم الحصاد، نجني فيه ثمرة تعبنا، اتقاسمها بين نفس الطفل الكامنة داخلي، وبين حصالتي الخشبية، أفرح عندما أهدهدها، أسمع صوت النقود تزغرد داخلها، أشم رائحة الخشب المنبعثة منها ، أهتف بالحياة لكل أشجار العالم، أطير الى البحر لشراء 'الدوم، التين الشوكي، غزل البنات'، اتبادل مع اصدقائي المعلومات، عن ورش النجارة التي يعملون بها، 'المعلمين'، الأجور، عند المغرب نودع الرمال المبللة، جحورنا التي بنيناها، الأمواج العائدة، بقايا أشرعة القوارب البعيدة التي كنا نتسابق على رؤيتها، نطوي الشمس خلفنا تصارع النوارس المهاجرة، نعود، أصبح كي أهشم قفل الورشة، أنظف الأرضية من قشور الأخشاب المتطايرة، أدير مؤشر الراديو، أتوقف به على اذاعة القرآن الكريم، أنشغل برش المياه أمام الباب لإحباط محاولات الغبار من التراكم بالداخل، انتظر 'المعلم' لابدأ معه قطف يوم جديد من باقة إجازتي الصيفية، أودع أيام العمل، استعد لاستقبال أيام الدراسة، أهشم بالفرح المخلوط بالشغف غطاء حصالتي الخشبية، أعد نقودي، أطير صوب أبي كي أبلغه بما جمعت، يطعمني بابتسامته الحانية، يربت على كتفي، يضع بين يدي أضعاف المبلغ، بأول أيام عامي الدراسي، أكتسي ملابسي الجديدة، جوربي، حقيبتي، حذائي، أمشي ببهاء المنتصر، أشم رائحة الخشب العالقة بندى الصباح، فأهدي شكري لكل أشجار العالم .
محمد سامي البوهي
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ــ
المنجلة : هي أداة يدوية تستخدم في تثبيث قطع الخشب ليتمكن النجار من تشكيلها.
نشرت القصة بجريدة القبس الكويتية بتاريخ :22/1/2007
القصة من مجموعة: أهرامات الضحك