لم آت في وقتي..دوما أتأخر!
دُعيَتْ لحفْلِ التأبين وهم لا يعرفون أن الحفل لها، لأحلامها التي أجهضت، لهذا الشيء الذي نما وترعرع ومد جذوره في خلاياها كشجرة تين.
ها هي الجذور قد شُلَّتْ ، وسقطت الأوراق دفعة واحدة في غير وقتها.. وتذكرت عبارة كتبها لها ذات مساء أيلولي:
- "لم آت في وقتي.. دوما أتأخر"
فكرَت.. لقد بكّرْتَ كثيرا هذه المرة... مسحت دمعة سخينة تدحرجت من عينها رغما عنها حتى وصلت إلى ذقنها ، وقررت أن تكون أكثر انتباها وحرصا على دمعاتها . لا يجب أن تبكي في مثل هذا اليوم، وفي مثل هذا المكان .
نظرت حولها لتتأكد من أن أحدًا لم يضبطها متلبسة بدمعة ، فوجدت أن الجميع يرتدون ملابس احتفالية.
هرج ومرج في القاعة كأنه حفل تنكري.. وكادت أن تبتسم ، بل إنها ابتسمت فعلا.
ازداد الهرج والمرج وهي لا تسمع ما يقال ، بل تعي مزيج الأشياء معًا .. تُحسُّ التوتر والغضب ، وتشمُّ رائحة العطور النسائية والرجالية دون تمييزها ، وروائح الجلود تنبعث من الأحذية التي تضخمت تحت نظراتها، في حين اختلطت عند أذنيها الأصوات الهامسة مع الخطب الرنانة ، وبعض زفرات هنا وهناك وحركة في الاتجاهات جميعها.
في تلك اللحظة تنبهت إلى يدٍ تلمسُ ذراعها بلطف ، فجفلت وقطعت أميالا في لحظة هي رحلة العودة من الذاكرة إلى الخط الفاصل بين المحسوس والملموس في جنون اللحظة الحاضرة..
رفعت رأسها وأمعنت النظر في الوجه الهادىء الحزين ، الجميل رغم السنين والمعاناة... إنها أمه .. لابد أنها أمه .حتما ،فالشبه واضح تماما .
سكبت في عيني المرأة ابتسامة لا شكل لها وردت الأخرى بمثلها.
- إنك هي..لقد حفظت شكل وجهك ؛ إذ طالما وصفك لي
-نعم.أنا هي من تظنين.
أشاحت بوجهها حتى تختصر الحوار ، وتحركت مستأذنة إلى مكان قصي في القاعة ، وشعرت أنه يموت اليوم مرة ثانية.. في هذا المكان.
- لقد كان رجل المبادىء... ورجل الكلمة القاطعة كحد السيف..
- لقد كان مدرسة في العطاء والوطنية ....
وتنحنح الصوت الأجوف الباهت وأحست بغثيان يجتاحها.
أوقفوا هذه المهزلة !
صرخت بكل جوارحها لكن دون صوت.. ونهضت مغمضة العينين في محاولة للإمساك بدمعتين كانتا تتدافعان للفرار من سجن عينيها!
أمسكت بإزارها الصوفي فلفته حول عنقها بحيث يخفي جزءا من وجهها اتقاءً للنسائم الباردة ، وخرجت متسلِّلةً ، بينما الجميع منهمكين.. فمنهم من هو فوق المنصة ومنهم من ينتظر.
سارت باتجاه سيارتها الصغيرة الرابضة في ركن بعيد ، ونسمةٌ أيلولية تلفح ما يبين من وجهها المُكْفَهِرِّ .. لمست خدها بيدها الباردة وشردت بعيدا للحظات، ثم أخرجت المفتاح من جيبها وهمت بفتح الباب عندما أحست بيد تلمس ذراعها بلطف.
- عرفت أنها سيارتك.. لطالما وصفها لي.
__________________
حنان الاغا