السلام عليكم ورحمة الله..
شهد القلم أنه..
عندما يفقد المرء المسلم شيئا ثمينا وقيِّماً.. وكيف ما كان هذا الشيء.. يكون بعدها معرَّضاً أن يفقد ما تبقى له من أشياء.. كونها تعتبر أقل قيمة مقابل ما تنتظره قلوب المؤمنين إن شاء الله في الجنة من نعم لا تحصى ولا تعد ولا تخطر على قلب بشر..
هذا ما حصل لنا نحن أغلب المسلمين العرب اليوم.. ارتكبنا من المحرمات ما لم يرتكب حتى في أيام الجاهلية الأولى.. أذعنا الفواحش وأقررناها بقلوب رانت عليها الذنوب واستحكم الشيطان وثاقه فوقها.. شيدنا بؤر الربا أضعافا مضاعفة في كل مكان وباركناها بالتعامل الربوي في كل صغيرة وكبيرة.. أقمنا للزنا بيوتا في كل شارع وخلوة، باركنا جهود الغرب لتضليلنا أكثر وفتحنا لهم كل قنواتنا الفضائية ومجلاتنا العربية.. فاستبدل بذلك الكثير من شبابنا الستر مقابل السفور.. والميوعة مقابل الطهر والعفاف.. ماتت النخوة في قلوب الكثير من رجالنا وأولادنا ولم تعد في أنفسهم الحمية والغيرة على أعراضهم.. بل استحلوا النظرة الحرام.. والمجلس الحرام.. تغاضى الكثير عن بركة الله في الزواج الحلال واستحل زنا المحارم.. صارت للخمر مصانع ومتاجر اليوم على مرأى العين تصفف فيها القنينات للمشتري والمتفرج.. ارتفعت أصوات الغناء النسائية والرجالية.. بل أصبح العفن (الفن) قبلة للكثيرين.. هُجر القرآن في الكثير من البيوت والمجالس ولم يعد له صوت يذكر أمام الأصوات الدنيوية الأخرى.. خَلت خطب أغلب دعاتنا من الكلمات الجهادية ولم يعد أغلبهم يكلف نفسه عناء كتابة خطبة الجمعة حتى.. إذ أصبحت تصلهم أينما كانوا مكتوبة بأيد عليا ويفتونها علينا بعين لم تر وقلب لم يوجع وفم يدعو بسلامة الحاكم في كل موضع..
وهذا ما حصل لأصحاب القرارات عندنا.. هذا ما حصل لأغلب الفئة التي تملك أكبر الصلاحيات أمام كل قضايانا المصيرية.. أو العسكرية.. أو الإدارية.. أو الاجتماعية.. أو الاقتصادية..أو التعليمية.. أو الطبية.. الخ..
أغلبهم تقلد منصبه دون تعب إلا من رحم الله.. ومارس مهمته دون وصب وبدم بارد.. وبعقل يعي جيدا أن المصلحة الدنيوية توجب وتلزم ترك مبادئ الإسلام في الكتاب والسنة.. والتعامل بما تقتضيه الحال من بروتوكولات وتغاظ وتحريض وتحايل وقمع ووشاية ورشوة ومقابل لا تُصَبُّ غِلاَّتُهَ إلا في حساب بنكي داخل الوطن أو خارجه.. أو حتى في جيب بنطلون أو سترة.. سواء أكان هذا الجيب على اليسار أو على اليمين أو من الخلف.. وهناك من اجتهد أكثر لحياكة جيوب أخرى احتياطية..!!
هكذا فقدوا قيمهم ومبادئهم السمحة شيئا فشيئا.. هكذا هان عليهم رؤية الحق أمام أعينهم وبين أيديهم وعدم العمل به.. هكذا سنوا لأنفسهم قوانين وأحكاما أخرى ما أنزل الله بها من سلطان ليضمنوا بها البقاء في مناصبهم أطول وقت ممكن.. بل هناك من سن قوانين على المدى البعيد.. وذلك بطلب موثق ومدفوع القيمة من سلطة عالمية أو كبرى.. لتبقى له حرية التمتع ما شاء له الضمير المبجل أن يقيم.. وما شاءت نفسه السخية أن تتكرم على شعوبها أو موظفيها أو مساعديها أو خداميها من احتكار أكثر واستنزاف آخر للوقت.. للطاقات.. للخيرات.. للعقول.. وللكرامة العربية التي تهدر كل يوم حتى في الشوارع وعلى مرأى من كل الأمم.. هكذا ماتت حمية الأنفس منهم على الدفاع عن الدين والعرض والشرف والمروءة.. فماتت النفوس إلا من أكل وشرب وهوى نساء وأموال.. وخارت قوى الجند الذين دب القمار والحشيش في عروقهم.. وصدئ السلاح الذي يشرى للزينة والتفاخر من بعيد..
ونجحوا كثيرا في مهماتهم.. والدليل هو أنهم لا زالوا إلى حد الآن يؤدون أعمالهم دون رقابة أو قانون يدقق ما يفعلونه أو ما يقبضونه.. بل حتى القانون العربي اليوم صار له هو الآخر جيب مخفي لا يرى بالعين المجردة.. وصارت له مواد تتكلم بلغة أجنبية..
هذا القانون المدبلج بممثليه العرب ومخرجيه العجم هو نتاج ما تعيشه الأمة العربية اليوم من حالة هوان وذل لا تحسد عليها، ليكتمل الوجع بمجيء المخرجون العجم إلى أرضنا بسيناريوهات جهنمية لتأجيج نيران الحروب والفتن والأزمات أكثر فأكثر في كل من فلسطين (الجرح القديم والأكبر) والعراق (الجرح النازف حاليا) ولبنان (برميل البارود المعبأ) والصومال (المسرحية الدرامية الجديدة) والسودان (سيناريو الموت القادم)، حتى اعتدنا مشاهدة مسلسلات القتل الجماعي بالصوت والصورة الدموية في أي مكان من أرضك يا إسلام.
والنقطة المشتركة دائما الآن وفي كل هذه الحروب والفتن والأزمات التي نعيشها هي وجود عصا الولايات المتحدة على الواجهة والبساط اليهودي في الخفاء والتهمة جاهزة للشعب المسلم وهي الإرهاب.. ليزداد الأمر خطورة بدخول إيران على الخط المباشر من جديد وبقوة ضاغطة على خط التلاعب بمصير الإقليم العربي بكامله، وأنجع التدخلات تتجلى على الساحة العراقية الآن وتتفاعل يومياً بالتأثير القوي على الميليشيات المسئولة عن أغلب عمليات القتل التي يشهدها العراق اليوم.. ويأتي كل هذا تزامنا مع تفاعل البرنامج النووي الإيراني.. لتخلو الساحة أكثر لكل من هب ودب يأتي لينهب ما شاء له من ثروات.. أو يقتل ما شاء من أنفس.. ليسجن أو يغتصب ما شاء من نساء أو فتيات أو رجال.. أو يدمر ما شاء من مساجد ومدارس وكل مكان قد يلد مسلما يقول بسم الله الرحمن الرحيم بفمه ويصدقها قلبه..
ولأن مجتمعنا اليوم أصبح لا ينظر إلا في الصورة فقط.. وبما أن عيون عقولنا لن تنفتح إلا إذا ما أغلقنا عيون أجسامنا.. صرنا نبحث عن الحقيقة الضائعة من وراء الجبل.. وهي ليست حيثما نبحث أبدا.. بل هنا في عقولنا وأجسامنا حيث نرفض رؤيتها..
هذه الحقيقة تقول أنه لن تتوقف آلامنا ولا جراحاتنا.. ولن ينتهي مسلسل الذل والإهانة لنا كمسلمين.. إلا إذا تسلمت أرواح حق وقلوب غيرة على دينها وأمتها كل المناصب المصيرية والفعلية والدفاعية.. وربط الدين بالدولة من كل جوانبها وعدم فصل أحكامه وتشريعاته عن كل قضايانا المصيرية والعسكرية والإدارية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية.. ليكون العمل حق والنتائج مضبوطة بيد الخالق عز وجل وفق ما جاء في الكتاب والسنة..
لكن ما يحز في نفوس من بقي لهم منا ضمير حي حقا.. هو أن الحقيقة التي يتعامى عليها أغلبنا الآن.. ويرفض أن يعيها بكل تعقل وحكمة وتبصر.. هي نفس الحقيقة التي نتجرعها الآن قهرا وظلما وعذابا والتي لم يحن بعد الوقت ليفرج الله عنا منها.. والآية الكريمة تقول :
"إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"
نعم.. قد أنعم الله سابقا على أمتنا المسلمة بالأمن والعزة والرزق والتمكين في الأرض.. وسلبنا إياها الآن بعد أن بدلنا أحوالنا وكفرنا بأنعم الله ونقضنا عهده وارتكبنا ما حُرِّمَ علينا.. بهذا لم يعد لنا عند الله عهد ولا ميثاق.. لتجرى علينا سنة الله سبحانه وتعالى في سابق الأمم.. سنة رب جبار تُحَوِّلُ الأمن خوفا.. والغنى فقرا.. والعزة ذلا.. والتمكين هوانا..
فكيف نرجو نصر الله ونحن على هذه الحال باقون؟ كيف لا نعي ما حل بنا من خسران في المعارك والأنفس والأعراض؟ لمَ نستغرب ما نتلقاه من ذل على أيدي أعدائنا من شرار الخلق والله أتى بهم جزاءا لما فعلته أيدينا وقلوبنا وأعيننا في الدنيا عسى أن نستفيق من سكرات الحياة؟
وأكيد أيضا أن الصمت الشعبي العربي اليوم لا يعبر عن قبول ما يجري على الساحة بقدر ما يعبر عن تخاذل وهوان وعدم قدرة على الدفاع أو المواجهة الفعلية.. ونجد بعض الأقليات يفكرون طويلا في أن يتفاعلوا مع الأحداث لينتهي بهم المطاف برفع لافتات استنكارية بيضاء أو ملونة والسير بها في الشوارع تعبيرا على عدم رضاهم عن صمت حكامنا المريب أمام كل ما يجري للأمة المسلمة اليوم.. أو تضامنهم مع إخوانهم المعذبين في كل مكان.. فلا يجدوا بعد ذلك للافتاتهم أعينا ترى بعين الحق.. ولا لخطاباتهم أذانا تسمع صوت الحق.. فلا يجنوا من كل هذا إلا تقوية أرجلهم برياضة المشي في الشوارع.. أو تسريح حلوقهم بالخطب التضامنية..
ولن تتغير حال الأمة إلا إذا ما غير أفرادها من أنفسهم.. إلا إذا غيرت أنا وأنت وهو وهي من أسلوب حياتنا بما يوافق شرع الله ومنهاجه القويم.. إلا إذا قلنا غفرانك ربنا على ما أسرفنا في أمرنا.. وسمعاً وطاعة لما أتى به حكمك المبين على أنفسنا وأموالنا وما تملكه أيدينا في دنياك الفانية.. إلا إذا اتبعنا جميعا هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.. إلا إذا أدخلنا تعاليم الإسلام في كل صغيرة وكبيرة.. وبداية أنفسنا التي ستشهد علينا غدا بين يدي بارئها بما اكتسبته أيدينا وقرته قلوبنا..
فهل من مستمع رشيد يزكي القول أو يأتي بأحسن منه..؟؟ هل من حاكم يعي مسؤولية منصبه وخطورته وما ينتظره من حساب أقل ما يقال عنه أنه لن يمر يسيرا..؟؟ هل من جندي غيور برفع سلاح الحق ولا يتركه لصدئ الزمن؟؟ هل من مسئول إداري أو اقتصادي أو اجتماعي أو تربوي يضع نصب أعينه أن العمل الحق حق مهما أخفاه العمل الباطل طويلا..؟؟ هل من داعية يشمر ساعده للحق ولا يسكت عنه خوفا ولا إكراما لسلطة..؟؟!! هل من أيد كريمة تتطوع لزرع بذور الحق بين دروب الباطل وتنتظر نزول الغيث من الرحمن لتنبث ثمرته الطيبة وتصل بطون الجائعين كثيرا..؟؟
اللهم بحق حلمك بعد علمك.. وعفوك بعد قدرتك.. رد إلينا ديننا القويم مرداً حسناً وفقهنا فيه وألهمنا رشدنا وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.. وأعد لنا العزة والتمكين يا رب وانصرنا على أعدائنا وقوى الشر التي تتكالب علينا طمعا في أنعمك الوفيرة والتي نضيعها الآن بفساد أخلاقنا وعدم رشد حكامنا وهوان جنودنا وطمع مسئولينا فخربت منا الأنفس والديار.. وصلي اللهم على نبيك محمد عدد ما خلقته على قرار أرضك وما بين سمواتك وفي غيب سمواتك من يوم خلقت الكون إلى يوم القيامة..