طحالب الانتظار
جاء الخوف مبكرا في ذلك الصباح .. أطل مع خيوط الفجر الأولى ، مدججا قرع الباب
قرْع الواثق من فتحه ، بل من اقتناص من خلفه.
فُتح الباب ، وكان هو ، وقف في حلق الباب جسدا مصلوبا متأرجحا كالواقف فوق خيط رفيع ومن تحته هوة سحيقة ، ينظر يمنة فيجد واحة من الأمان والحنان ، وينظر
يسرة فيجد القسوة والبغض فما واسعا يستعد لابتلاعه.
بين الأم التي تشبثت بذراع وحيدها ، وبين الخوف المدجج الذي تشبث بالأخرى ، كان هو ، الروح والعقل وباقي الجسد وسط لعبة تشبه لعبة شد الحبل التي كان يلعبها عندما كان تلميذا في حصة الرياضة البدنية .كان فريقه يغلِب تارة ويُغلب تارة أخرى ،
ولكنه الآن في هذه اللحظات يعلم تماما لمن ستكون الغلبة، بالتأكيد لن تكون للحب والأمان في زمن الرعب والشك وتغيير المسميات ، الزمن الذي انتفت فيه البراءة
ونام فيه العقل، واستقال فيه المنطق ، وتلبست شياطين القهر فيه أرواح البشر ، بحيث أصبح الجدار أذنا والنافذة فما والباب أغلالا تسوق الروح والجسد إلى قيعان
غائرة مجهولة لها جدران كابية لا شكل لها ولا لون إلا ما تسمح بتزييفه العتمة
من أخْيلة تثير الريبة في ما تبقّى من شعاعات الروح القانتة إلا من رحمة إلهية .
حرك ظهره وفركه بالجدار الفاقد اللون ، ربما أراد أن يتأكد من أن مجسات الحس ما
تزال تعمل في جسده المنهك.
رفع كفّيْه إلى جانبيْ رأسه كأنما يكبّر للصلاة ، ولكن ساعته الحيويّة ما تزال تعي
أن الوقت ليس وقت صلاة .. كما أن ساعة الظل _الذي بالكاد يسير على الكيانات
اللزجة حوله _ قد اقترحت ذلك أيضا، فأمسك رأسه بين راحتيه بحرص كمن يمسك إناء نفيسا يحتوي على أكسير الحياة ..لم يتبقّ إلا محتويات هذا الإناء ولن يفرط فيها ،
فالروح انتكست قلقا وفقدا وانتظارا ، والجسد انتهك ضربا وذلا وجلوسا إلى الجدران
التي أخذت تزهو يوما بعد يوم مع شبح ضوء يتراءى كل صباح ، ويوحي بلون الطحلب الذي يغشاها .
تحسس الرأس بحب يخبئه عميقا في أغوار تكوينه ، في بقعة ما تزال نظيفة طاهرة
في نخاع عظمه ، وهمس دون أن يحرك شفتيه - لو بقيت أنت فقط فنحن ، أنا وأنت بخير .
حاول أن يتبين الأرقام التي حزّها بأظافره على الجدران أثلاما في طبقة الطحلب ،
والتي حرص على تعميقها كي تبقى مقروءة أو ملموسة حتى ، فيما لو فكرت
الطحالب القميئة أن تنمو وتطول وتملأ الأثلام . قرأ الأرقام بأطراف أصابعه برشاقة مستَغرَبة في مثل هذا الوضع ، وأحس بقلبه يهوي ، وبنبضه يتسارع . تكلم إلى عقله
بهمس - لو كانت حاسة اللمس لدينا ما تزال سليمة فقد اقترب الضوء ، واقتربنا من الحب والحُر..... وأحس بدوامة تجتاح الجسد الهزيل ، وتخيّل أنه في عُرض البحر ،
استسلم لها وهو يستمع إلى صدى قعقعة المعدن من بعيد.ها هو يحرك ظهره الملتصق بالجدار ، جدار الأرقام فينمحي بعضها ويدمج بعضها بالآخر . ما هَمَ
وقد حان الوقت ..
فَرَدَ جسده بصعوبة وهو يدندن على صوت القعقعة ، وهو الصوت ذاته الذي طالما أبكاه طيلة أرقام كثيرة مرت عليه دون أن يدري حقيقة ما جاء به إلى هنا ، وحقيقة ما سيخرجه من هنا بعيدا إلى حضن أمه .
استرخى الجسد تماما على إيقاع الصوت الآتي من بعيد ، واسترخى الجفنان وأُغمِضت العينان على صورة آت قد لا يأتي
______________
حنان الأغا
2006