السباحة عكس التيار
مثلما ينفرط عقد من الماس تهامت قطرات المطر لامعة شفافة ، تعكس ومضات من ألوان الأشياء الثابتة في خلفية المشهد ، الذي تنهمك الطبيعة برسمه فوق الأرض وعلى مدى ارتفاع الفضاء فوقها وصولا للسماء.
جاء المطر !
تركت النافذة وانطلقت نحو الباب ، وفتحته وغادرت البيت تاركة مفتاح سيارتها التي بدأت طقس حمام مطري في تلك اللحظة .
قطرات المطر تنثال فوق رأسها ، فتتحول إلى جداول صغيرة ، توسع لنفسها ممرات دقيقة في غابة الشعر الكثيف ، لا تلبث أن تسّاقط شلالات ناعمة صامتة فوق جبهتها وأنفها وصولا إلى ذقنها ،حيث تتسرب إلى ملابسها فتبلل المعطف الخفيف ، ثم ترتعش قليلا وتغذ السير ، غير آبهة بحركة المرور التي جُنت حولها .
أحب المطر ..تنهدت ، ثم كورت شفتيها وفردتهما ، ثم كورتهما ، وتتابعت حركات الشفتين حتى انتهت من لفظ عبارتها مرة ثانية وبفصل الحروف والتأكيد عليها :
( أ ح ب ا ل م ط ر ) ، وكأنها تريد استفزاز تلك العيون التي تدوّرت خلف نوافذالسيارات المغلقة بإحكام .كان المطر مبعث دهشتها دائما ، فهو يجعلها تحس بأنها عنصر أزلي متوحد مع الأشياء حولها ، الشجر ،والبيوت ، والشوارع ، والأرصفة والمارة ، هي وهم ،عناصر تكوين فني ثابت ومتحرك ، ناطق وصامت ، قديم قدم المجرة وجديد مثل القطرة التي هطلت لتوها بعد التقاء ديمتين محملتين حبا ونماء.
الصورة تتغير كل لحظة ، فالقطرة تهمي مثل الدمعة أحيانا ، وتتحول إبرا شفافة صامتة أحيانا أخرى ، أما البنايات فيتعمق لونها بعد تمزق الرداء الترابي الذي تكثف واتسخ طيلة الجفاف ، بينما تنضو الأشجار ثوب الغبار لترتدي حلة براقة رقراقة.
حتى الشوارع التي ابتلع إسفلتها كل الألوان ، ها هي تتحول مرآة تحت الأضواء أو بقعة سراب وسط الهجير .
كل ما حولها يشي بالجمال ، ويبعث على الدهشة ، حتى هؤلاء الذين مروا صدفة فوجدوا أنفسهم محاصرين بالهطول وبالسيول ، ها هم يتراكضون على غير هدى ، النساء يسرن بسرعة على رؤوس أطراف أحذيتهن تحاشيا للبلل، وقد وضعن حقائبهن فوق رؤوسهن للحفاظ على الشعور المسرّحة أو الوجوه المطلية بألوان قد تختلط بالماء فتحولهن إلى ما يشبه المهرجين ..أما الرجال فإن خطواتهم الواسعة تساعدهم في الظهور بشكل أكثر تحملا وواقعية ، إلى أن يصلوا حيث سياراتهم، وأحيانا (يزرقون ) عنوة داخل حافلة تراصّتْ فيها الأجساد .. كل يسعى للوصول إلى جدار أو باب يفتحه ثم يغلقه دونه .
ها هي تعبر الشوارع غير آبهة بما قد ينالها من رشقات مائية بفعل السيارات المتسارعة ، بل إنها تضحك ملء قلبها الذي يرتعش لحظة استجابته لنسمة باردة مرّت على بلل ، وتنهل رائحة التراب التي تنبعث لدى التقائه بالماء بعد غياب ،التي تشبه رائحة الثمرة في بدء مواسم القطاف .
لقد فَتَحَتْ النوافذ وشرعت الأبواب وانطلقت عبر الجدران ، لتعيش الحياة الموّارة خارجها .. ولكنهم يسيرون هرولة باتجاه الأبواب والجدران ، هم يعتقدون أنها صنعت لننغلق خلفها ، سجنا اختياريا ، همست لنفسها ، ثم فكرَتْ ، لو كان هذا السجن قسريا لفهمت ! رفعت وجهها باتجاه السماء وضحكَتْ ضحكة كبيرة سمحتْ لها بارتشاف بضع قطرات صافية ! وتابعت السير بجذل وبخطوات هي للرقص أقرب .
تذكرَتْ سمكة( السلمون) التي تقطع الماء في رحلة طويلة باتجاه المياه الدافئة ،في موسم البيض ، فتلاقي ما تلاقي من عناء ، كي تصل إلى المكان المنشود ،فتضع البيض ، وتودعه حيث الدفء والأمان ، وتعود سابحة عكس التيار ، وقد نال منها التعب والإنهاك ، تنتظر موتا مرتقبا ، فهي تعرف هذا مسبقا ، وتهيء نفسها لهذه الرحلة منذ أن كانت داخل بيضة لم تفقس بعد .. هي تدرك جدوى حياتها،والمغزى الحقيقي لها ، وتسعى لتحقيقه ، فما بال هؤلاء يستمرئون الموت قبل خوض الحياة !!
حنان الأغا
16-11-2006