كتب صديقي الفاضل
المهندس السوري مازن صالحي مقالة جديرة بان يطلع عليها فضلاء واحتنا الكرام
بعد ان وعدني بالانضمام الى قاقلة المبدعين في واحتنا
الإعلام والأوهام
مازن صالحي
البحث عن الحقيقة عملية طويلة مضنية. فنحن لا نعرف العالم كما هو حقيقة بل نراقب ظواهره (يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا)، و لا نعرف نوايا الناس و ما يبطنون و ما ينوون. و كثير منّا لا يدرك الأساليب العلمية المتطورة التي اكتشفت و طوّرت و استغلت في التحكم بتفكير الجماعات البشرية و توجيهها، و استغلال غريزة القطيع إلى أقصى حد لتحقيق مكاسب سلطوية. و البحث في هذا المجال واسع و معقد إلى درجة تجعله بعيدا عن متناول معظم الناس، و لو أنه بحث في غاية الخطورة. و يمكن للقاريء الاطلاع على آراء مهمة في هذا المجال بقراءة "تصنيع الطاعة" (Manufacturing Consent) و "أوهام ضرورية" (Necessary Illusions) لناعوم تشومسكي.
بالمختصر، من المؤكد أن هناك "صناعة" اسمها صناعة الرأي أو المزاج العام لمجموعة بشرية معينة. هذه الصناعة لها تقنياتها المدروسة و المطورة و المجربة و الفعالة. أدوات هذه الصناعة هي التعليم و المدرسة و المؤسسة الدينية و وسائل الإعلام بأنواعه. و يمكن تشبيه تأثير هذه الأدوات - بكثير من التبسيط - بالحقل المغناطيسي الذي يؤثر على برادة حديدية منثورة فيستقطبها و يوجهها بشكل منتظم. و كأي صناعة، فإن لها مستثمرين فيها، يصبون فيها مقدراتهم بشتى أشكالها، و يستحلبون منها منتجاً مرغوبا. هذا المنتج هو المزاج العام و الاستقطاب الذي يتكون عند المستهلك لهذه البضاعة، و الذي يضمن تنفيذه للأوامر و طاعته و تبرعه بماله و وقته بل و حياته مقابل ما صار "يؤمن" به. و عبر تاريخ الإنسان، كانت هذه أدوات هذه الصناعة مكلفة و بعيدة المتناول من جهة، و ضعيفة الفعالية من جهة أخرى، و ذلك لأنّها كانت تعتمد على العنصر البشري المباشر لإحداث التأثير المطلوب، و كان هذا محدوداً بسبب محدودية مساحة الاحتكاك الممكنة مع الجمهور المتلقي، و بسبب تخافت تأثيرها عند تجميدها بشكل نصوص مكتوبة (و هي وسيلة البث الأساسية المتوفرة آنذاك). و قد كان نجاح الحركات الاجتماعية و السياسية الكبرى حكراً على القلة القليلة التي فهمت أساليب الاتصال و أتقنت صناعته، و أيضاً امتلكت أدواته المكلفة. و مع تطوّر تقنيات الاتصال، تضخمت مقدرة هذه الأدوات مئات المرات، و ازدادت مقدرتها و فعاليتها على التأثير، خاصة مع تعاظم دور الإعلام المرئي و المسموع على حساب الإعلام المقروء. إذ أن الإنسان مارس التواصل وجها لوجه منذ نشأته الأولى و اعتاد عليه، و مفردات التفاعل مع الوجوه و الأصوات مغروسة عميقاً في الكائنات الحية - و منها الإنسان - لأنها طالما كانت أدوات حياة أو موت. و من المعلوم أن الحيوانات العليا تتلقى الإشارات الصادرة من بعضها و من الإنسان مثل الخوف أو الغضب عن طرق الحواس و تفهمها. و مع هذا التطور، صار صاحب الرأي أو الدعوة يصل إلى المتلقي في غرفة نومه بصوته و صورته و تعابيره كاملة. و يتفاعل المتلقي الغافل مع هذا البث كما لو كان حاضراً مع المتحاورين أو المحاضرين، لأن تركيبة عقله تعتقد ذلك بسبب ملايين السنين من التطور البطيء الذي لم يهيئه لوضع مشابه، بينما هو في الحقيقة يجلس وحده في غرفة صغيرة، يتلقى المعلومات في اتجاه واحد. و مع التطور التقني حصل شيء جديد، إذ قلت إلى حدّ كبير تكلفة أدوات الصناعة التي نتحدث عنها، و صارت في متناول من هبّ و دبّ. و في خلال سنوات معدودة، حصل انفجار إعلامي كبير، فأنشأت مئات المحطات الإعلامية التي يحاول كل منها استقطاب أكبر شريحة ممكنة من "المستهلكين". و ازدادت قوة المجالات المغناطيسية التي تحاول استقطاب برادة الحديد و ازدادت توجهاتها و تداخلها، و ازدادت معها جرعات المحفزات و المخصّبات التي تحقن في شرايين الإنسان بشكل جنوني لضمان استمرار ولائه لأفكار معينة، أو لمحاولة انتزاعه منها إلى "حقول" أخرى. و عانى الوعي الإنساني ما تعانيه الأرض، في انتقال أدوات الحروب من القوس و السهم إلى القنابل الهيدروجينية، فكان أثر تغوّل الأدوات بهذا الشكل أن سُحق الوعي الجماعي الذي كان الهدف الأساسي هو استنباته. و حصل كذلك ما يشبه ما يجري في عالم الأمراض الجرثومية و الطفيلية، حيث أن السلالات القديمة المتواضعة من الجراثيم، و لضمان حفظ بقائها أمام الهجوم البشري الحاد عليها، قد أنسلت أجيالاً جديدة فتّاكة من الجراثيم. ففي مجال الوعي الإنساني، و لمقاومة البث التشويشي الحاد و الفعال القادم من كل الاتجاهات، نبت التطرف الشديد كسلاح بدائي يضمن نوعاً من المناعة لمستخدمه من تأثيرات الاستقطاب المخالفة. و من علامات هذا التطرف عدم الإصغاء إلى الرأي الآخر و عدم الاستفادة مما تطرحه الأفكار المخالفة أو المغايرة، و بمعنى آخر تعطل القدرة على التعلم و اكتفاء كل طرف بما لديه (كل حزب بما لديهم فرحون). و يمكننا أن نرى هذا بوضوح في المحطات الفضائية التي تبث هذه الأيام ما لا يكاد يصدق من الاتجاهات المتباينة، يصدرها بشر من نفس التركيب البيولوجي. أي هاردوير Hardware متماثل و لكنه يشغل سوفتوير Software مختلف تماما. فهل صار البحث عن الحقيقة أصعب اليوم؟ الجواب في رأيي لا. و ذلك لسببين. السبب الأول هو أنه بالنسبة للباحث، فإن التوازن بين التأثير الممارس عليه و بين الأدوات المتوفرة لديه لا يزال قائماً، بالرغم من ازدياد وزن كل من كفتي الميزان عما كان عليه الأمر قبل قرون. و السبب الثاني و الأهم هو ذلك الفرق الجوهري بين الإنسان و الميكروب، في أنه بإمكان الإنسان أن يعي ذاته، و أن يراقب نفسه من بعيد، بينما لا تستطيع الجراثيم و لا الحياة الطبيعية أن تفعل ذلك. البحث عن الحقيقة لم يصبح أصعب إلا على من لم يكن يتبع المنهج الصحيح في البحث أصلاً. فمن يقصر بحثه على التلقي و الاستهلاك، قد صار بالفعل في موقع يصعب الخروج منه لأنه ألغى ميزته الإنسانية الأساسية و تحول إلى عنصر مكشوف و محكوم، يسهل توجيهه. أما من "يعقل" و "يتفكر" فلديه من الأدوات ما يكفيه لمواجهة الأعاصير الفكرية الحالية بنفس الفاعلية التي واجه بها العقلاء من القدماء عصرهم.