منقول...
الفكر واللغة في صيغة جذمورية
هكذا يعيد دولوز بناء العلاقة بين الفكر واللغة، فالفكر ليس لغة واللغة ليست فكراً، الفكر لا يعيد بناء اللغة، ولا اللغة تعيد تنظيم الفكر، إنهما مسطحان، وصفيحتان، وكائنان، ولكل منهما صيرورته، لكنهما صيرورة لا تحدث إلا عبر لقائهما واصطدامها، لقاء على شكل موعد عشق، نزوة طارئة وليس زواجاً كاثوليكياً، لقاء لا يقوم على المحاكاة، وإنما على السرقة والاقتناص، صدام عنيف، فكل فكرة جديدة تولد تلتقي مع اللغة في عرس عنيف وتصادم منتج، صيرورة من الانسراب عبر اللغة، الانسراع فيها مرور كمرور الكتل الكونية في الغلاف الجوي، كانسراب النيوترون إلى داخل النواة، مرور الإلكترون في فضاء فوتوني، سقوط الأشعة على ذرة، إنها عملية مرور، عملية انسراب وهروب داخل اللغة، كل فكرة جديدة هي لغة داخل اللغة، صيرورة نمو لا متوازٍ، مرور يأخذ من اللغة ويعطيها، يقطعها، ويقتطع منها، حالة تزاوج عابر ومرور اغتصابي يعيد تركيب اللغة ويتراكب معها، يعيد تصيرها ويصير جديداً من العبور فيها، الفكرة تتصير عبر انسرابها في اللغة وتعيد تصيير اللغة، كالفيروس الذي يعبر الخلية، يغيرها ويتشوه، يشوهها ويتغير، وكذلك تفعل اللغة في الفكر ضمن اتجاهين متعامدين، فكل علامة لغوية جديدة تصطدم بالفكر والمعرفة، ترتسم في لقاء جديد، إنها حالة من الصيرورات العابرة لبعضها، لقاءات تغير اللغة وتغير الفكر، لكن مع بقاء كل منها هارباً في صيرورته، صيرورة لا ترتسم إلا عبر خط الهروب في الآخر، فالإشارات تثني المعنى وتطويه، والمعنى يتكور في الإشارات ويضج بداخلها، ينفلت ليسبح على سطحه وينفلت من العمق إلى السطح، ليمر من السطح إلى العمق ومن العمق إلى السطح، من الداخل "داخل الثنية" من داخل الإشارة كثنية للمعنى إلى إشارة أخرى تقابلها، تعيد اجتراح المعنى فينسرب الفكر بينهما، كما تنسرب اللغة بين فكرة وفكرة، فكل لغة جديدة تدخل الفكر كفكر وتولج فكراً للفكر، ولذلك فالفكرة تفهم ليس من خلال شرحها بفكرة، بل من خلال مقابلتها بفكرة أخرى على مسطح آخر وفي مجال آخر، ليتسرب الحوار بينهما فكراً، وينسرب الفكر بينهما كقطار يعبر جهنم.
الفكر ليس نتاج ملكة العقل كما يعتقد كانط، وإنما هو نتاج لحالة اشتباك بين كل ما تعصفه الملكات كافة، الانفعال، الخيال، الحس، الحدس، اللاشعور، الذاكرة، اللغة، فالفكر من نتاج هذه الملكات كلها، من تقاذفها للومضات، ومن تنافرها، ومن تلاقيها أيضاً، فالكائن يمر عبر الفكر، والفكر يمر عبر الكائن، وكلاهما ينزلق على مسطح اللغة “فالذي يبعث بالفكرة إلى الوجود هو عنف العلامة التي تومئ فتحث على التفكير”، تنقذف إلى الملكات الذهنية والوجدانية توترها، تستفزها، فتقوم هذه الملكات بإشعاع فكر ورؤى،19 فالتفكير هو فعل إرغام، والبحث هو مغامرة، تبدأ من اصطدام الملكات بالقوى المناوئة وتنبثق منه، وأهم هذه القوى التي تدفع إلى التفكير هي العلامات، فالعلامة تنبثق كارتسام عنيف لا واعٍ نصطدم به كمعنى ملفوف وحقيقة مثنية في الداخل، تعاندنا وتحاورنا، نحررها ونحرر المعنى فيها. ولذلك، فالمعنى يظهر كحقيقة في الزمن، ينبثق فجأة، يشكل الحقيقة كزمن، والزمن كحقيقة.20
المعرفة كأرض والفكر كارتحال وانتشال
إن المعرفة عندما تتكور في اللغة، تصبح هضبات زاخرة بالمعنى، وكثافة ضاجة بالطاقة، زاخرة برغبة الانفلات والجريان، مرهونة للانفجار والترحال، تنفجر وتنزلق وتجري عبر خط هروبها، عبر سطح مرن متصيرة فكراً ماراً في معارج المسارات، هابطاً في الأغوار والأعماق، ينتشل نفسه من الأرض، ليرتحل يزور أفاقاً جديدة، يوغل في المفازات والصحارى يترنح، ثم يعود إلى اللغة بعد أن يصطدم بعلامات جديدة، ذلك الاصطدام الذي يرتسم على شكل معاني جديدة، ويرتسم على شكل مناطق جديدة في المعرفة، فتوحات في الكينونة ورسم خرائط، حالة من الارتقاء والتغير، الارتقاء والتطور، “الكائن الإنساني منذ كان: منذ ولادته الأولى كان ينتشل قدمه الأمامية، ويفصلها عن الأرض ليصنع منها يداً،21 ثم يعيدها إلى الأرض وقد أصبحت يداً، تنتشل الأغصان عن الأشجار، والحجارة من الأرض، لتحولها أدوات “فؤوساً وسكاكين ومحاريث”، وتعيدها إلى الأرض “تعيد أرضنتها” بعد أن أصبحت أدوات “فالعصا كأداة هي غصن تم انتشاله”،22 تعود إلى الأرض لتنتشل الأرض أو قطع منها، وتعيد تصيرها حدائق وبيوتاً وعمائر.
وهذا ما يفعله الفلاسفة والمفكرون، ينتشلون المعاني والأفكار، الإشارات والكلمات ينتشلونها من سطوحها، يركبون منها تراكيب جديدة، مفاهيم “الفلسفة”، وتراكيب وظائفية “العلم”، وإحساسات وانفعالات إدراكية “الفن”، ثم تتم إعادة موضعتها على السطوح، عملية تغير المفاهيم والسطوح معاً، سطوح تخلق المفاهيم، ومفاهيم تعيد إعمار السطوح، حركات وانزلاقات، انزياحات وتراكيب، الأفكار والمفاهيم تتراكب وتتجاور وتشكل سطوحاً ومسطحات، مناطق جديدة، لكنها لا تتداخل، لا تصير غير ذاتها، ولكنها عند العبور، في خط التجاوز والانزلاق، تحدث صيرورات وتغيرات، تتراكب على شكل مفاجآت وانبثاقات وولادات؛ “فلا يمكن فصل حالة الأشياء عن الإمكان الذي تعمل من خلاله”، ومن هنا فالفكر يخترق سطوح المعرفة ويهرب بها من إمكان إلى آخر، ومن مسطح إلى آخر، “فكل فيلسوف كبير يرسم مسطحاً جديداً للمحايثة، فإنه يقدم مادة جديدة للكينونة ويقيم صورة جديدة للفكر، إلى حد أنه لا يوجد فيلسوفان كبيران على المسطح ذاته”،23 فلا نتصور فيلسوفاً دون أن نقول: إنه غير من دلالة الفكر أو فكر بشكل مختلف، أو إنه فتح مسطحاً للفكر المختلف، مسطحاً في السديم ليمده لغة ومعرفة وكينونة. وبالمقابل، فليسوا بفلاسفة أولئك الموظفون الذين لا يجدّدون صورة الفكر، ولا يرهنون حياتهم لهذه المهمة.24
فالفكر والوجود كلاهما يهتز، ويتراقص ويتمايل على إيقاع حركة من التلاقي والتصادم والتداخل بين السديم الذي تشكل معرفة وكينونة، وبين الكينونة والمعرفة التي ما زالت سديماً؛ أي بين المتشكل والمصاغ على شكل سطوح للمعرفة، وهضاب للكينونة، وصحارى للفكر، ومناطق للسكنى من جهة، وبين السديم السابح والمنفلت من المادة والطاقة والمعرفة والحياة والوجود، الموجود كإمكان واحتمال من جهة أخرى، فالمعرفة والفكر يوجدان في العالم على شكلين وبصيغتين، صيغة مجسمة أي مفهومة “أي مصاغة على شكل مفاهيم أو وظائف أو انفعالات، فلسفية أو علمية أو فنية”، في حين أن هناك معرفة متسربة سيالة على شكل سديم يخترق الكون والعالم والإنسان، سحب ضبابية من الخبرة والمعطيات والانفعالات تجوب المفازات وتعبر العوالم وتخترق الذوات، ضاجة بتوهجها، راغبة في عبور يكثفها، وولوج يجسمها، ونشوة تحققها وتأرضنها “تعيد توطينها”، لتهبط على مسطح معرفي، تعمره وتنبثق عليه عامرة بالدلالة والمعنى، وفي مقابلها ثمة معارف وأفكار فقدت توهجها وكثافتها وبددت طاقتها، وصارت آيلة للتبدد نازعة للانفلاش والعودة إلى السديم. ولذلك فمهمة الفكر، والأشكال الثلاثة الكبرى للمعرفة: الفن، والعلم، والفلسفة، هو دائماً مواجهة السديم، رسم مسطحات وتشكيلها فوق السديم، ولكن الفلسفة تنقذ اللامتناهي بإعطائه تكثفاً: فهي ترسم مسطح محايثة، يحمل إلى اللامتناهي أحداثاً أو مفاهيم تكثيفية بفعل شخصيات مفهومية، أما العلم فعلى العكس: يتخلى عن اللامتناهي ليفوز بالمرجع: فهو يرسم مسطحاً من الإحداثيات لكنها غير محددة، هذا المسطح يحدد كل مرة حالات معينة للأشياء، وظائف أو قضايا مرجعية تحت تأثير ملاحظين فرديين، والفن يريد خلقاً متناهياً يعيد إعطاء اللامتناهي، ولذلك يرسم مسطح تركيب، يعمل بدوره نصباً أو إحساسات مركبة بفعل صور جمالية.25
إن أنواع التفكير الثلاثة (الفن، والعلم، والفلسفة) تتقاطع وتتشابك، ولكن دون تركيب ولا تماثل متماهٍ فيما بينها. فالفلسفة تحقق انبثاق أحداث مرفقة بمفاهيمها، والفن يقيم نصباً مرفقة بإحساساتها، والعلم يبني حالات الأشياء مرفقة بوظائفها، وثمة نسيج من الترابطات بين المسطحات وتلاق بين المكونات، تلاق يصل ذروته في ذروة تتداخل فيها مركبات المسطحات، في صيرورة من التهجين والتصادي، ما يجعل أي ظهور لعنصر جديد على مسطح، فرصةً لعناصر على المسطحات الأخرى تمكنها من المجيء، فكل عنصر يبدع على مسطح يستدعي عناصر أخرى متنافرة يجب إبداعها على المسطحات الأخرى: ذلك هو الفكر باعتباره تكويناً لا تماثلياً، وهذه هي المعرفة باعتبارها حالة من التراكب والمناداة، حالة من التعابر الجذموري، فتداخل المفاهيم الفلسفية، والإحالات المرجعية العلمية، والانفعالات المدركة فنياً، لا يماثل التزاوج أو الاندماج، وإنما يوازي في تشكله البناءات الجذمورية، فكل منها يبنى مع الآخرين ويتوسطهم، بحيث يكون كل منهم وسطاً، يأخذ الآخرين في غمار حركته وتوتره وصيرورته، وأخطر ما في هذه المعانقة الذروية أنها قد تجيء بأحد الخطرين: وهما في حدهما الأقصى: إما أن تقودنا إلى الرأي الذي نريد الخروج منه، وإما أن تلقينا في السديم الذي كنا نزعم مواجهته،26 فكل مبدع عليه أن يخلق مسطحه، أن يصطاد مادة سديمية ويطوعها ويعيد تشكيلها، وعملية الصياغة خطر ومخاطرة، اصطياد واقتناص، ترحال لا رحيل، اغتصاب وليس محاكاة، وحفر لا تصفح، وثقب وليس مسحاً، فالمسطح حفر وثقب في السديم لكي تعبر ذرات الضباب وسيولات الطاقة، وتتكاثف لتجعل المبدع يرسم مسطحه، ويخاطر غالباً لكونه قد يكون أول المنسربين والضائعين في سديم الضباب وممر التلاشي. ولذلك، فكل تفكير عميق مخاطرة، وكل بحث فلسفي أو عمل إبداعي خيانة، فالتفكير، كل تفكير، هو دائماً اتباع خط الساحرة، والكتابة هي دائماً كتابة مع آخرين لكتابة رحلة قادمة لم تكتسب لغة بعد.