لـَمْ يَعُدْ أخْضَرًا !
يُحاوِلُ أنْ يُركِّبَ جُمْلةً واحِدةً دونَ تأتأةٍ فلا يَسْتطيعُ ، مُحمَّدُ يَتَفصَّدُ وَجَعًا كُلَّما راوَدَتْهُ الأفْكارُ اللَّعينةُ بِدُنوِّ الذِّكْرى الثانيةِ للرَّحيلِ المُرِّ ، لَمْ يَذُقْ طعْمَ الرُّقادِ مُنْذُ يَوْمينِ ، وَكُلَّما تذكَّرَ ذلكَ زَمَّ شَفتيْهِ وأغْمَضَ عيْنيْهِ وتَدثَّرَ بِشَرْشَفهِ الأزْرَقِ الدَّاكنِ مِنْ أخْمصِ قَدميْهِ حَتَّى طرفِ رأسِهِ حَتَّى يُلاقي الصَّباحَ وَهُوَ مُتَشنِّجُ الأعْصابِ وَفاترِ القُوى . كُلُّ شئٍ يبدو قاتِمًا ، حتَّى وَجْهُ أمِّهِ الذي تَعوَّدَ أنْ يَنْظرَ إليْهِ ليفْتحَ رَغْبتَهُ للعَالمْ لمْ يَعُدْ يُحْييهِ.حَدَّقَ ذاتَ مَساءٍ من مساءاتهِ الحُبْلى بالأرَقِ في الظَّلامِ الماثلِ أمامَهُ ، لمْ يُغْمضْ عينيهِ كالعادَةِ لأنَّهُ أرادَ أنْ يستعيدَ كُلَّ مَلمَحٍ جَميلٍ أبْصره في وَجْهِ مُنى ، كانَ يسترجعُ ذلكَ بغبطةٍ وأنْسٍ . يذكُرُ جَيِّدًا الكلمات الأولى التي أطلقتها حينَ مَرَّ عليْها في طريقهِ لبيْتِ خالِهِ : أهْلاً مُحَمَّد ، ما كَفّارَةُ غيابِكَ الطَّويلِ أيُّها المُشاكِس ؟؟ افتقدناكَ حَقًّا وكأنَّك قَضيْتَ عامكَ الأخير في المَريخْ ! . كانَتْ تُحادِثُهُ بِبَراءَةٍ ساذَجَةٍ ، تَضْحَكُ بنَشْوةٍ عارِمَةٍ ، وكأنَّ في جَوْفِها طِفْلةٌ شَقيَّةٌ لَمْ تَرْعوي بالعَصا يومَ كانَتْ تَسْحَبُ عُلبَ المَشروباتِ الغازيَّةِ بحَبْلٍ بَيْنَ منازلِ الحيِّ مُنْتصف الظَّهيرةِ القائِضَةْ ! ، كادَ مُحَمَّدٌ أنْ يَفلَّ جَهْرًا منْ أمامها مِنْ شِدَّةِ الإضْطرابِ والفَرَحِ ، أرادَ أنْ يَخْتلي بِنفْسِهِ في مكانٍ لا يراهُ فيهِ إلاَّ قلبُهُ كَي يَصْرُخَ بأعلى صَوْتِهِ : قاتَلَ اللهُ الحُبَّ وَصَبَّرَ المُحبينَ !
يَتَذكَّرُ مُحَمَّدٌ حينَ خَبَّأ نعالها ذاتَ يَومٍ أعْلى نَخْلةِ الخلاص ثُمَّ فرَّ هاربًِا وهو يَسمعها : مُحَمَّد،يا وَجْهَ البَطيخةِ الدُّبّْ ، إنْ لمْ تُرجعْ نعالي سأجْعلُ النَّملَ الأسْودَ يَغْزو ظَهْركَ اليَوم ، أتَسْمع ؟؟ لنْ أسامحَكَ أبَدًا . يَتذكَّرُ يَوْمَ كانَ يَسألها عَنْ مسائِلِ الجَبْرِ والإحْصاءِ ويستمعُ للشَّرحِ وَيَهزُّ رأسَهُ كالْمخبولِ إيجابًا كُلَّما كَرَّرتْ : فَهِمْتَ الآنَ يا سي مُحَمَّد ؟؟ .يَمْسَحُ مُحَمَّدٌ دَمعتينِ هاربتيْنِ مِنْ مِحْجَريَهِ وهو يسْتدعي هذه المواقف ، وَيَنْظرُ إلى يديهِ اللتيْنَ عَرضَ بهما قُوَّة البَطلِ الزّائِفَةِ أمامَها حينَ لاكَمَ حائِطَ منزلِ جارَتهم الحادَّةِ اللسانِ حَتَّى تَوَّرَّمَتْ وظلَّتْ تنزفُ أيامًا . اتكأ محَمَّدٌ بِثقلِ هَمِّهِ ووجَعِهِ عَلى بابِ غُرِفَتِهِ وَنَفَثَ أنفاسًا حَرَّى وأوْشَكَ أنْ يتهاوى ويسيلُ ذاتًا مَفْقوءةَ الحُلُمْ !!
لَيْلةُ الأرقِ العاشِرَةِ لِمُحَمَّدٍ كانَتِ الأعْنفَ ، وكأنَّ الليالي الماضيةَ كَدَّسَتْ كُلَّ الجُرْحِ بِقَضِّهِ وَقَضيضِهِ لتلكَ الليْلةِ ، بَكى مُحَمَّدٌ كَثيرًا ، بكَى وبَكى والحَنينُ بلغَ مبلغهُ وَبدأ يَصْرعُهُ من الدَّاخلِ وعزْمهُ يتآكلُ شيئًا فشيئًا . لَمْ يَشْعُرْ إلاَّ بِصُراخِ أخيهِ المَجنونِ يَملأ المَكانَ ، تَذكَّرَ أنَّهُ لمْ يُصلِّ الفَجْرَ . ذَهَبَ وتوضأ لَكنْ بِدموعهِ هذهِ المَرَّةْ !!
لَمْ تَكُنْ مُنى أجْملَ مِنْ بناتِ الحَيِّ ، لَكِنَّهُ تَوحَّدَ فيها لسببٍ لا يعلمُهُ، أصْبضحَ ممسوسًا بها ، وحينَ كانَتْ مُنى في سَنتها الجامعيّةِ الثَّالثَةِ كانَ هُو يَجوبُ شوارِعَ مَسْقَطَ وَيعبُّ عُلبةَ بيبسي كالتي كانَتْ مُنى تؤذي بها الجيرانِ . لثلاثِ سَنواتٍ لمْ يَلتقيا كما كانا وأثناء ذلكَ كانَ مُحَمَّدٌ يَكتبُ رَسائِلهُ إليْها ثَمَّ يُخبِؤها بإحْكامٍ في مَنْدوسِهِ الصَّغيرِ الذي أعْطتهُ إياهُ أمَّهُ حينَ عَزَمَ عَلى البَحثِ عَنْ عَمَلٍ . في مرَّاتٍ كَثيرةٍ كانَ يُعيدُ قراءَتها بِصوتٍ مُرِتفعٍ وهو في شُقَّتهِ المَزْدحِمَةِ بالأغْراضِ والأحْلامِ والغارقةِ في الأنْفاسِ المُتْعبَةِ منْ وَطأةِ الحنينِ . كانَ من المُفْترَضِ أنْ تصَلَ رسالتُهُ الوَحيدةُ إليْها كَي يَعْترفَ لها بِلواعَجَ قَلْبِهِ ، لكنَّ الَموْتَ التْهَمها في حادثِ سَيْرٍ مُروريِّ فالتَهَمَتْ حياتَه . كانَ يرى الحُبَّ أخْضَرًا في ظلالِ روْعَتها لكنَّهُ لَمْ يَعُدْ ولنْ يعودَ !!