كلما اقتربت من حلمي و من شاطئ الأمان ، تقتحمُ عليَّ عالمي بدون استئذان ، وأنا أعوم في بحر الصّبر، ، تحطمُ بمخالبك مركبي ، تنثرني قطعًا ، كي تسهلَ عليهم اصطيادي ، وتأكلني حيتان اليأس ، لتعيدني إلى نقطة النهاية من جديد .
أيها المنافق ... أيها المستحيل..
لعلّكَ لم تعّرفني جيدًا، فأنا لن أتوبَ عن حلمي الكبير ، لن أمزقُ شراعي ، ولن أحطم مركبي ، و لن آكلَ يديَّ ندماً على فشل محاولاتي الكثيرة ، وسأقوم مرة أخرى ، ألملم أشلائي ، وأصنعُ مركبَ حياتي كي أعود من جديد ، أحاول مرات ومرات أخرى ، ألم تعرفْ بعد ، أنَّ من هو مثلي لم يعد يملكُ شيئاً ليخسره ، فتعال إليَّ متى شئت ، وكيفَ شئت ، فلن ترى مني غيرَ هذا ، صبْرٌ وإصرارٌ على مقاومة جبنكَ وغدركَ الكبيرين.
أنتَ لم تعرفني جيداً، فلماذا تجعلُ من الممكن مستحيلا ، تنافق وتدعي خوفكَ عليَّ ،وقد جئتني في وقتٍ تكالبَ فيه الأعداءُ عليّ ،بعدَ أن سددوا في خاصرتي طعنات الموت ، هل تظن اني سوفَ أستسلم ،اطمئنْ فما زلت أسير ، رغم كلَ جراحي وآلامي الكبيرة ، ورغم الغربة و المنفى ، ما زلتُ أعرف كيفَ أتنفس ، وما زلتُ أحبُ الحياة ، وأرفض التنازل عن حريتي ، فتعال إليَّ ، تعال وخذ مني حتى ترضى ، ولن ترضى ، ولن أجعلكَ ترضى أبداً ما حييِّت .
قد تنتظرُ طويلاً ، ولسوفَ تصبرُ مثلي تمامًا ، أنا أقاومُ بصبري كي أعيش ، و أنت تقاوم غباءك كي تقضي عليَّ ، وحتى لو متُ قبلَ أن أصل ، يكفيني أنكَ تعرفُ أني أعرفُ أنكَ لم تهزمني ، رغمَ أسلحتكَ الكثيرة ، ورغم أعوانك وطابورك الخامس ، ورغمَ كثرة الخونة والمنافقين .
سأقاوم عداءك، رغمَ تجاهلي من قبَلِ من هم حتى ليسوا باعداءٍ لي ، رغم عدمَ مساعدة القريب والبعيد ، سأقاوم ، وسأعترفُ لكَ بأمرٍ حتى تكونَ أكثرَ عداءً وأكثرَ جبنًا وأنت تطعنني فوقَ جرحي ، ساٌقول لك ، نعم ، يحزنني أنني وحيدٌ ، وأن هناك من يعاونك على قتلي ، وأنا أعذرهم ، أرأيت ، كيفَ أصنعُ من شدّتي دواءً يعطيني أملاً في متابعة المسير ، كيفَ أصْبرُ على سوء طالعي ، كيفَ أعذر من يعرفني ، ومن لا يعرفني ،وكيفَ أعذرُ من يخذلني وهو يعرفني ...
لَيْتَهم عرفوني أيامَ كنتُ سيدًا في عالمي ، لو رأيتني يومها وأنا أحفرُ بيدي على صخر الحياة ، أقاوم رغم معاناتنا الكبيرة ،أنشدُ حياة كريمة وسلاحي الأمل ، أردد لمن حولي " لكي تعيش عليكَ أن تكون جديرًا بهذه الحياة ، حرًا ، عزيزًا، كريمًا ، سلاحك الأمل والصّبر ، وكرامتكُ تساوي حياتك ، تُعْرفُ بها ".
لو رأيتني وأنا أسبحُ عكس تيارك في زمنٍ كانَ لي بكل تفاصيله ، لو رأيتني وأنا ألتهمُ كتبَ المعرفة ، وأنا أحتضنُ في ذاكرتي وفي مكتبتي ، كتبَ الأقدمين والمجددين والمعاصرين ، فها هي الإلياذة والأوديسا، تحاكي مأساة قومي الحزينة ، وها هم فلاسفة اليونان ، ينسجون الحكمة والمعرفة ،وهذه المدينة الفاضلة ، تعطيني دفعًا كبيرًا نحو المعرفة ، نحو الحياة .
لو رأيتني وأنا أعطي دروسًا في المعلقات ، أحفظُ منها ما يعجزُ عنه أقراني ، لو رأيتني وأنا اكتبُ بحوثا عن جاهليتنا الأولى وعن صدر إسلامنا الحنيف ، لو رأيتني وأنا أغزلُ من كليلة ودمنة أناشيد الحكمة على لسان حيوانات تفقه أكثر من حكامنا المتاعيس ، لو رأيتني وأنا أكتبُ بحوثًا عن مقدمة رائد علم الاجتماع الحديث، لو رأيتني وأنا أتغزلُ بأشعار الأندلس وفردوسه المفقود، وأتعملقُ في فهم تهافت التهافت ،" اقرأ يا فتى حتى لا تظلم غزال العلم ، وأمسك بناصية الحقيقة وابحث قدر ما تستطيع ". لو رأيتني وأنا أقرأ عن البخلاء والحيوان ، و أحفظُ ما أحفظ من صحيح الحديث ، لو رأيتني وأنا أتعلمُ من تاجر البندقية وذاكَ البائسِ "عطّيل" ، لو رأيتني وأنا أنسُجُ آمالاً كبيرة وأقصُ القصّصَ عن مدينتين لأعرفَ كيفَ يكون الحب والتضحية ، لو رأيتني وأنا أحارب الفقر والظلم دفاعًا عن بائسي وطني الحزين .
لو رأيتني وأنا أتابع سيرة الرابطة القلمية وغربة أصحابها وأرواحهم المتمردة ، لو رأيتني وأنا أكتب عن العصبة الأندلسية ، لو رأيتَ كيفَ كان سليمان الحكيم يلهمني الدروس ، وكيف كنت أنهلُ العلم من العبقريات ، وكيف كان شعرنا الجاهلي يتناثر على موائد بحثي وأنا أتابع علْم من أبصرَ وهو ضرير .
لَيْتك رأيتني وانا أنشدُ " مديح الظل العالي " أقفُ صامدًا وسط كلِّ فوضى أمتي وهامتي لا تلين ، لَيْتكَ رأيتني كيفَ كنتُ أرتبُ فوضى هذه الحياة ،أصنعُ الأملَ وسطَ جحيم الدمار وأرددُ "دمي على كتفي" و لا أخشى الموت ، وسياطُ الجلاد تأكل أكتافي و قلبي كصخرة لا تلين.
لو رأيتني وأنا أسيرُ تحتَ فضاء المتوسط ، و في مدن الملح ، أقطعُ المسافات الطويلة ، أبحثُ عن مرزوق ، وعن عُشبةٍ فيها دواء وصفها لي طبيبٌ، قال ستجدها في صحراء وطنك ، فابحث يا ولدي ولا تيأس وكن "متشائلاً " في أسوأ الظروف .
لو رأيتني وأنا أحلم بالعودة إلى حيفا ، ويحدوني أملٌ كبيرٌ ، واضعًا نصبَ عيني وطني ، وأقول بكل فخر هذا الوطن في العينين ، ولسوف أجرؤ على الشوق إليه ما حيِيتُ.
لو رأيتني وأنا أعبثُ بـ" سيزيف" وأسطورته ، وكيف جعلتُ من الدوامة عنواناً كتبتُُ من خلالها تاريخ انقلاباتنا العسكرية في أوطاننا الحزينة ، لو رأيتني وأنا أصارع سمكة ذاك الشيخ في بحر تلاعبَ بي مده وجزره ، فلم أستسلم وخضتُ غمار موجه بحثًا عن غذاءٍ لروحي رغم الألم الشديد.
لو رأيتني أيها المستحيل ، وأنا في بداياتي ، أرتقي سلمَ المجد ، أضعُ وردةً حمراءَ على صدري حتى يعرفَ من سيكرمني بأني أنا الفتى ، وأني من أوائل المطالعين.
أعرفُ أني أنا من مهدَ لكَ الطريق ، وأني أنا من ساعدك في لحظة جنونٍ على اقتحام عالمي ، في يومٍ لم أعدْ أتذكرُ ملامحه ، في يومٍ تغيرَ فيه كل شيء ، تكالبت فيه المحن عليّ من كلِ حدبٍ وصوب، فطُعنتُ في ظهري كما طُعنت أمتي من قبلي ، فضعتُ بين حزني على نفسي وعلى أمتي ، وأعرفُ كيفَ صنعتُ بيدي واقعًا أرهقني ، ودمرَ ذاكرتي في لحظة لا أعرفُ لها اسمًا ، فاختلطَ همّي الصغير مع همّي الكبير ، وقمتُ بحرقِ كلِّ كتبي ، في ساعةٍ اقتحَمَ فيها اليأس فيها حصني ، فكانت غربتي ، وكانت تسعُ سنين ، هجرتُ فيها كلَّ عالمي ، حتى بتُ لا أعرفُ كيفَ أكتبُ ولا كيفَ اقرأ ، وكيفَ أصبحتُ ظالمًا للُغتي ،وباتَ يتجاهلني من يدعي العلمَ والمعرفة ، ومن يملكُ علماً ومعرفة ، وصِرتُ أبحثُ عمّن يساعدني ، كي أعيدَ تكوين ذاكرتي من جديد .
أنا لم أيأس ولن أيأس وها قد استيقظتُ من جديد ، فأنا ابنُ طائرِ الفينيق ، وأنا ابنُ هذا الشرق العريق، ومن أتباع أعظم رسالة أضاءت ظلمات قرون الأولين والآخرين ، فهل بعدَ كلِّ هذا ستهزمني ، أشكُّ بذلك ، فحاول إن استطعت، أيها المنافق المستحيل..!!