المشاركة الأصلية كتبت بواسطة د. نجلاء طمان
"قطار يسير في ذاكرة امرأة معذبة"
في محاولة لفهم وتحليل القصة من وجهة نظر للأستاذ الأديب : محمود الديدموني .
المدخل التمهيدي للقصة ..
رجل وامرأة يتشاركان غرفة في قطار ..شريكان في الحياة ولكنهما لا يلتقيان فلكل ذكرياته الخاصة به
{ قالت: حتماً سيتوقف القطار..}
جملة تمهيدية افتتاحية .. ينبه الكاتب بها المتلقي على لسان المرأة أن القطار سوف يتوقف ..
أي أن الرحلة في نهايتها.
{ وراحت تنظر فى مرآتها، تتحسس ملامح وجهها، لم يزل خلف ستائر نضارته، تنهدت بعدما سكنت عينيها دمعة... راحت تحدق فى اللاشيء، تتراءى لها على البعد أطياف تغازل حلمها، وتداعب أطيار مخيلتها.القطار يتهادى من بعيد، ولأول مرة..
المرآة لا تزال فى يدها، رفعتها ثانية، تتطلع وجهها..}
**هي في عين نفسها**
المرأة ترتب نفسها بعد رحلة طويلة منهكة تنظر في مرآتها .. تتحسر .. من تلك التي تنظرها في المرآة ؛ الوجه اختلف ، أنهكه التعب .. والتعب هنا ليس تعب رحلة القطار وإنما تعب رحلة الأيام التي حفرت شقوقا مجهدة في وجهها.. تنظر للزوج .. منهمك في ذكرياته لا يشعر بها يواجهها بنوع من البلادة بينه وبينها ستائر - كان القاص موفقًا جدا في اختيار التعبير- تتعذب من بلادته .. تتذكر شبابها وعنفوانها ثم تنظر مرة أخرى في المرآة ..
{ انعكس فى مخيلتها ضوء صادف وجهي، صهرني، احتوتني، أحسست بتخلقي داخلها، تثرثر، كأنها تحدثني، ثم راحت تدلك جسدها فى رفق .
***
فى عينيها ألمح وجوهاً ملثمة، تختفي معالمها عنى تماماً، تحاول هي استجماع معالم الوجوه، أصيبت بالرجفة، وأشاحت بوجهها بعيداً، كنت أنا الآخر قد تعبت من ملاحقة عينيها، فنمت. .}
**هي في عينه **
الزوج يرى زوجته جيدًا ويدرك داخليا كل عذاباتها ومعاناتها .. ولكنه يتبلد عامدًا متعمدًا لدرجة أنه يرى وجهها وجوهاً ملثمة .. عيناه تلاحق عينيها في بلادة يتجاهل عذابها . وحركاتها التألمية اليائسة .. يتركها فريسة لصراعاتها ويبدأ في النوم ..
{في عينيها رأيت حركة القطار عكسية..}
جملة اعتراضية في منتهى الأهمية ، إذا لم تفهم من جانب المتلقي ؛ فقد خيط متابعته للقصة .. فالكاتب يدخل المتلقي الآن في ذكريات الرجل التي تكون بدايتها في عين زوجته ..
ومعنى " حركة القطار عكسية " ليست الحركة الواقعية البحتة العكسية للقطار وإنما يقصد بها الرجوع بذاكرته إلى الوراء من خلال عين المرأة " أي ذكرياته مع الماضي "
{تقف على حافة المحطة، بين أعواد الغاب والبوص.. مضفرة الشعر، تحركها أهواء الطفولة، تمرح كفراشة فى فضاءٍ رحب، ترتسم معالم أنوثتها شيئاً فشيئاً.
رأيتها تفلت من أحدهم، عندما كانت تتوارى خلف أعواد الغاب ..}
** القطار يسير إلى الوراء في ذاكرة الزوج**..
يتذكرها بكل عنفوانها وشبابها .. بكل أنوثتها التي جذبت كل أعين القرية إليها .. بخجلها وابتعادها عن شباب القرية ..
{ رأيت... أدركت خطورة موقفها، أعطت ظهرها للقطار.. وبمرور الوقت عادت تنتظره متوجسة..}
فقرة تشويهية دخيلة .. أصابت المتلقي بضربة ذهنية ..بدأ بعدها يفقد تركيزه وانتباهه تدريجيا مع مجريات القصة .
{الكلمات تنطلق مخترقة خواء القرية، تمزق فى عنف ثوبها الملفوف حول جسدها... لم تهتم، بينما تحاول رسم ابتسامة على وجهها طالما استعذبوها.}
**فقرة مكملة للفقرة التى سبقتها** ..
فالكاتب مازال يتذكر كيف كان جمال رفيقته : جسدها ، ابتساماتها ، علاقتهما ، معرفة الأهل بها ، رد الفعل ،و موقف المرأة صاحبة الصوت الغليظ التي قد تكون الأم .
{آه .. أشعر بها تخترق جدار غرفتي، تؤرق مضجعي.. أسمع تلك المرأة غليظة الصوت، تنهرها، تصر على معرفة كل شيء.. تحاول لكمي ما استطاعت، أتفادى ضرباتها واضعاً يدي فوق رأسي، متكوراً على نفسي، رغم كل ذلك.. أشعر بالوجع يتسرب إلى جسدي الرخو..}
**رد فعل **.
..وهنا أود الإشارة إلى أن الكاتب قدم صورة بلغة تصويرية رائعة الجمال إيحائية لكل ما يعتمل داخله من صراع .. لتكشف العلاقة .. والمدهش في روعة الصورة.. إحساس الرجل بالألم من خلال معاناة المرأة.. وكأنما يمتزج بداخلها ويشعر بألمها ..
{ما تلبث أن تتوقف, مأخوذة بالحنين إلى فتاتها.. تنهنه فى ألم.. تمسح عن جسدها آلام القسوة قائلة: لن يرحمنا الناس.
تعاود القارة, يغلبها التعب, يأخذها الحنين, تجد وتحزن.
والجسم الأبيض البض تحول إلى قطعة زرقاء, بدا هزيلاً.. لم تنبث بكلمة, وأنا لا زلت متشبثاً بالبقاء. }
** عودة الى الواقع** ..
**المرأة في القطار**
المرأة تعاود الَكرة.. تتذكر نفسها فى الماضي وتتحسر على نفسها .
{فى المساء غافلت القرية, ألقت بنفسها بين أعواد الغاب, والظلمة تغزو أرجاء المحطة إلا من لمبة وحيدة, تحاول ما استطاعت, شعرت بقدرة اللمبة على تبديد الظلام, فكلما اشتد الحصار حولها كلما بدا ضوءها..
قالت متنهدة: ياه.. هل أعجز عن أن أكون مثل هذه اللمبة؟ كانت الأفكار تغزوها, والكلمات تصارعها.. والأمل يطل ويخبو, وبينما هس كذلك , تداعب جدران حجرتي, أشعر بالأمن.
* * *
العاشرة موعدنا, هكذا قالت, بعدها ستغادر القرية, من أجلك أنت.. يا قطعة مني.. يا قطعة منه.. أقدر ظروفه، رسالته لي تؤكد مجيئه.. لن يخلف أبداً موعداً.. نعم سيأتي.. ثم متحسسة جداري.. ستخرج إلى القرية تتحداه.. هم لا يعرفونه مثلما أعرفه.. لقد أخبرني أنه معي شعر بذاته, أحس بطعم الحياة, كنت نهره الدافق,.. ثم متوجسة.. فهل يكون حصني المنيع؟}
**موقف المرأة في الماضي من خلال ذاكرة الزوج**
يعود الزوج إلى الماضي فيتذكر زوجته من خلال ذاكرتها هى ، حين تهرب من بلدتها وأهلها ؛ لتلحق الحبيب .. تتحدى كل قوانين القرية وأعرافها من أجل حبها ، من أجل رجلها ، يملأها الأمل ، تراهن ... تقامر بكل ما لديها ...
{ألقت بالكلمات من فضاء عقلها المضطرب.. وراحت تترقب الضوء القادم من بعيد.. }
**فقرة اعتراضية هامة لتوضيح أن الزوجة كانت تنساب في عقلها نفس الذكريات المشتركة .. تنفضها وتعود للقطار ، للواقع .
صوت القطار يصفع صمت الظلام, وضوءه يمزق رداءه الثقيل، لمعت عيناها بالفرحة, وارتسمت على شفتيها ابتسامة حذرة..
يتهادى القطار أمام عينيها, ومحاولات دفعه مستمرة, الوجوه الملثمة تتضح شيئاً فشيئًا, والقطار يسير، المشاعل من خلفها تبدِّد حلكة الليل, والفضاء يعج بالصراخ والصخب والريح تقصف بالمكان, لوَّح لها يمكنها الصعود, فالقطار
{يسير بطيئاً, بطيئاً..
لمعت الفرحة في عينيها, قفزت داخله, راحت تقرأ الورقة بسرعة, أحسست بذبذبات جسدها.. كادت تتهاوى.. تماسكت.
كنت أنا الآخر قد كرهت البقاء, قرَّرت الثورة على الخوف.. ربتت على جسدي كي أتمهل.. لم تستطع الصمود أمام ثورتي.. راحت فى غيبوبة عميقة..
خرجت إلى الفضاء صارخاً, تنهدت بعدما أفاقت.. أخرجت لفافة من صدرها.. خلعت عباءتها, لفتني بها, ربطت باللفافة على جسدي.. أحسست فى عينيها شيئاً.. داعبتها بيدي, ابتسمت}
تستعد المرأة بابتسامة معذبة .. تهندم نفسها .. الرجل يستعد هو الآخر .. كل منهما يلقي بحلمه ، بعذاباته ، بداخلياته من القطار قبل أن يتوقف ..
{وفجأةً... ألقت بنفسها من القطار.}
**العبارة الرائعة الخاتمة** ..
ألقت بنفسها من القطار ..-ليس المعنى البحتي للسقوط ؛ فهي تلقى بكل عذابها .. همومها .. مقامرتها الخاسرة .. تستعد للنزول من القطار - بوجه آخر- مع رجل مختلف عن رجل اختارته يوماً وركبت من أجله القطار .
*التعقيب*
في رأيي أن القاص يملك أدوات رائعة ..استعاراته ومكنياته فاقت حد التصور من الإابداع ..لكنه اعتمد فى طريقة سرده على السرد المتتابع والقفز المتلاحق من ذاكرة المرأة إلى ذاكرة الرجل.. ومن واقع الى ماضٍ فى سرعة كانت أكبر بكثير من سرعة استجابة ذهن المتلقى ففقد المتلقي ـ رغما عنه ـ خيط متابعة الأحداث، ووجد نفسه لا شعوريا يريد العودة للقراءة من جديد مرة ومرة ..ساهم فى تعميق هذا الشعور لدى المتلقي وضع الكاتب أحيانا الفواصل فى غير مكانها الصحيح ..
الكاتب الرائع :محمود الديدمونى
وضعت تحليلا متواضعا جدا لرائعتك وهدفى من التحليل ..البناء وليس التفكيك ..هى همسة ..أهمسها على صفحتك حرصا على هذا العمل الرائع..أرجو أن تتقبل همستى لك بسعة صدر.
تحية وشذى
الوردة السوداء