مقطوعة هى... كل امتدادات الرؤى إلى رجل يقاسمنى الرغبة فى الدفء والوصل...إلى رجل يملؤنى.. يقاسمنى الهواء الذى أتنفسه... ذراعيه وطنى.. وقلبه قلعتى... وعينيه الشهية شرارة وصل... أغسل ثيابه... أطهو طعامه... أنتظره خلف نافذتى... أرقب قدومه المتعب من أول الطريق... أنتظره خلف الباب .. أتعلق برقبته المكدودة.. أمنحه من شفتى رحيق الحياة والعافية...
سنتان من عمرى مقطوعة... مبتورة فيهما كل مشاعرى... ماتت تلك الامتدادات... وتركت لى الوحدة.. لتقاسمنى الحياة.. وتفترس كل طعم جميل فى حياتى.. وتحيلها لعمر يمضى بلا هدف... وأيام بلا معنى.. بطيئة ثقيلة مملة.. تلتهم جسد لم يتجاوز الخامسة والعشرين من العمر لتلقيه إلى الموت.
تطلعت إلى ساعة الحائط... بليدة كأيام حياتى... لحظات كسنين لتعلن عن قرب موعد قدومه اليومى... موعد اعتادته ابنتاى حين يأتى عمهما ليطرق على باب البيت طرقات ودوده .. يتقافزان من الفرح... يفتح ذراعيه لهما فيشرق الكون ليضمهما إلى صدره.. أحسدهما... يجدان من يحوطهما بذراعيه... لا أحد يزورنا سواه فى بيت مملؤ بأهل زوجى... لا أحد يتفقد.. أو يسأل سواه..
أتحرك منذ فترة بالقصيرة بوحى غريب تجاهه.. إحساس لا أستطيع التعبير عنه.. ولكنى بالتأكيد صرت أنتظر موعد طرقه الودود على الباب... أشعر أن حياتنا تمتلئ بالبهجة لفترة قصيرة جدا لمجرد وجوده.. كأن الشمس تختزل شروقها وغروبها طول اليوم فقط حين يأتى وينصرف..
منذ وفاة أخوة لم يتطلع إلى مرة واحدة.. لدرجة خلت أنه لو رآنى فى الطريق لن يعرفنى..حين أخرج إليه أرتدى ثيابى كاسية جسدى كله... أرتدى حجابى وأخرج لألقى عليه تحية المساء... دقائق قليلة يقضيها معنا حتى ينصرف..ولا تطول تلك الدقائق إلا عندما تطلب البنات ذلك.. فيستجيب.. لم أطلب منه ولا مرة واحدة أن يبقى قليلا... وبوحى لا شعورى مطلق طلبت منه مرة أن يجلس معنا للعشاء.
أعاد التحلق حول المائدة لأسرة كاملة العدد رجل وامرأة وأطفال ذاكرة جميلة مفتقدة .. أحرقت الدموع وجهى واختلطت الأضواء والألوان عندما كنت أراها من خلال الدموع .
اعتدت من فترة لأخرى أن أدعوه ليجلس معنا.. كان يستجيب بود ولطف رائعين.. ومع ذلك ظل يأتينا كما الراهب الذى يعيش فى صومعة ولا تغريه نداءات الحياة...
أفقت على صوت زوجته ينادينى.. صوت اعتدت عليه منذ سنوات ولكن هذه المرة كأنى أسمعه لأول مرة... شعرت وهى تكرر نداءها أننى تماديت فى مشاعرى تدفق الدمع إلى حدقة العين غير أنى أوقفته وابتلعت غصة حلقى حين وقفت أمامى مبتسمة ابتسامتها الودودة لتقول لى سنتأخر على درس المسجد.
طول الدرس كنت أختلس النظر لها.. تلك المرأة الرائعة التى احتوتنى كأننى أختها الشقيقة فى محنتى وظلت بجانبى ترعانى لم تتركنى لحظة... دلتنى على الخير.. أخذتنى للمسجد.... بيت الله... لتستعيد روحى توازنها كانت منارة لكل من حولها كالبلسم للجروح كل معانى الأخوة والإيثار متجسدة فيها... مجلسها عامر بالإيمان والذكر والابتسام الجميل تحملت مع زوجها سنين البدايات الصعبة بكل رضا وتسليم وحب.. وظلت على الدوام ملجأ لأهل البيت.. امرأة يفخر بها أى رجل ولا يجد لها مثيلا... كيف فكرت للحظة هكذا... شعرت أن أحلامى تطاولت وتجاوزت حدودها ... عدت بالتالى للمربع رقم واحد.. مربع الألم والوحدة والدموع... ولكنى اكتشفت بعد فترة قصيرة أن روحى لم تعد معى لنفس المربع متمردة على الألم والدموع على كل العرف والتقاليد باحثة عن حقها فى الحياة... وصارت تقفز من الفرح حين يحين قدومه.. وتتخايله حين أضع رأسى على وسادتى ليالى طويلة ولكن إلى متى؟
اختصر فى لحظة كل مسافات الألم والحزن.. أجاب على كل أسئلتى دفعة واحدة حين قال لى بحياء بالغ أنه يريد أن يتزوجنى.. طال الصمت بينى وبينه وهربت كل الحروف منى قطع الصمت بنحنحة قصيرة وبصوته الوقور قال: طلبك للزواج أحدهم ولكنى رأيت أننى أولى ببنات أخى ثم تهدج صوته قليلا وخفض صوته أكثر سيسعدنى أن توافقى جدا... تلك اللحظة الباهرة كما حزمة ضؤ قوية تفجرت بكل ألوان قوس قزح فما استطعت إلا أن أرفع وجهى لها لتغسلنى مغمضة عيناى كانت ألوان الطيف أقوى وأجمل من احتمالها....
حلمى... كان كحياتى بلا امتدادات... بلا رؤى حقيقية واقعية.. كان حلمى كريشة رقيقة فى مهب الريح... يحاسب الناس على أفعالهم وأنا أعدمونى على حلم حلمته... على أمنية فكرت أن يكون لها امتداد... حياتى الخالية امتلأت فجأة بالناس... والكلام والصراخ وجوه لم أرها من قبل قفزت إلى دائرة حياتى.. عيون كثيرة تتطلع إلى بغضب واستنكار وتقزز وشهوة.. كلمات كثيرة عن العفة والأدب والحياء وسرقة الرجال... عاملتنى كل نساء البيت والجيران.. وجيران الجيران.. وكل نساء الأرض كأننى مرض معد... كأننى شئ مقرف نتن.. أصبحت سيرتى على كل لسان بالحق وبالباطل أصبحت أتحاشى الخروج... كنت مسجونة فأصبحت مسجونة شديدة الخطورة... وأصبح كل الأزواج حولى كالأطفال تخاف عليهم أمهاتهم من الساحرة الشريرة من النداهة التى ستستلب عقولهم.
الأمل مازال يقفز إلى عيون بناتى فى أن يطرق الباب بوده المعهود... أن يتسلقا على كتفيه.. أن يضمهما... ولكنه لن يأتى... أعرف ذلك... لن يأتى... فقد قلت له أننى لن أبنى سعادتى على دموع أحد أبدا.. فتوقف خوفا على... ولكنى لن أنكر أن لهفة قوية ترجرج أجزائى كلما اقترب موعد قدومه الذى لن يأتى فيه... وأمنية باتت ميتة مازالت تجتر بقايا حلم أنه أتى وضمنى كما يضم البنات وتتعلق ذراعى برقبته مثلهما تماما وأرفع ذراعى له رافعة جسدى على أطراف أصابعى ليرفعنى مثلهما تماما ويدور بى فى الفضاء.... ولكنه لن يأتى ولن يأتى ولن يأتى....وسيظل باب حياتى محكوما عليه بالانغلاق مدى عمرى... ولن تأتينى زوجته مرة أخرى.. ولن تضمد جروحى فقد مزقت وجهها الباسم ومزقت معه كل معنى جميل سمعته منها وداست عليها وأعلنت له أنه مستعدة أن تسامحه لو أنه أخطأ معى... ولكنها لن تقبل أبدا أن توسع لى لأجلس بجوارها لأتقى فى ظلها هجير الحياة... ولن تسمح مطلقا أن تسقينى من إنائها البارد شربة ترطب حلقى وتعيد لمسامى الميتة الحياة... يمكنها فقط أن تبتسم لى وتمنحنى كل المعانى السامية و القصص الجميلة عن الصحابيات والمهاجرين والأنصار والإيثار والأخوة.. فقط.. فقط وهى فى الظل وأنا فى الهجير...
ولن أستطيع أن أقترب من بيت الله.. حتى السكينة حرمونى منها تجرأت كل نساء المسجد على الله ونصبوا فى بيته سبحانه العادل الكريم محكمة ظالمة وانحازوا لزوجته وعيروه وفضحوه تلك التى صبرت على فقرة وتحملت معه كل صعاب الحياة لتاتى امرأة لتأخذه هكذا لن يحدث هذا أبدا ولاكوا سيرتى ولفظوها على الأرض وداسوا عليها بأقدامهن ... وحاصرتنى عيونهن بالاتهام والإرهاب والقسوة كان السجن فوق احتمالى والحصار يغتال كل بذرة حلم جميل يمكن أن تطرأ على بالى وأصابع الاتهام بأننى امرأة شهوانية تريد رجلا بأى وسيلة قد قضى على البقية الباقية من عقلى.
أخذت وقت طويل فى العلاج حتى استطعت استعادة توازنى النفسى وكانت زيارة ابنتاى لى فى المستشفى أكبر الأثر فى الإصرار على التمسك بالحياة لاحتياجهما الكبير لى أما هو فلم يدخر وسعا فى متابعة حالتى والاطمئنان على وتوصية الأطباء وتحمل كل النفقات اللازمة لعلاجى وكل ذلك دون أن أراه ولو مرة واحدة فقط .
كان أول شئ فعلته بعد خروجى من المستشفى هو زيارة زوجى ووقفت أمام قبره خاشعة تنساب دموعى بهدؤ ساكن ودعوت له بالرحمة ووزعت صدقات كثيرة راجية بها رحمة الله أن تدركنى وسكينته تملؤنى.
عدت إلى بيتى بعد أن استعدت توازنى إلى حد كبير واستطاعت مشاعرى استيعاب الأحداث وفوضت أمرى إلى الله صاحب الشأن كله.
رتبت البيت وحممت بناتى وارتديت ثوبا كاسيا ووضعت حجابى على رأسى وفتحت المصحف وقلت يا ألله أنت ملجأى وملاذى ليس لى أحد سواك أذهب إليه ضاقت على الأرض بما رحبت فأنزل على سكينتك وارونى من برد عفوك ورضاك... وظللت أقرأ فى المصحف وكنت أشعر مع كل حرف أقرؤه بروحى تغتسل بالنور وتتحمم بفيض سماوى فتملؤها السكينة والرحمة...
كانت الساعة تقترب من السابعة والنصف... ابتسمت وقلت كنا ننتظر هذا الموعد لقدومه اليومى والآن صرنا ننتظر هذا الموعد لعدم قدومه اليومى.... ضممت ابنتاى وقبلتهما وقلت لهما هيا للعشاء... وقبل أن أكمل الجملة كانتا تقفزان فى الهواء وروحى تحلق معهما فقد سمعنا من جديد طرقه الودود على الباب.