لم أتذكرها إلا خارجة من ثانوية المهد، تخط الأرض بقدميها، تتأبط حقيبتها المترعة بركام الألغاز.....
والمليئة بآلاف الكلمات...
لا أفهم من بين أشكالها إلا رموزا قلائل، وعبارات مهوسة تنتاب روحي....
أعاتبها بكلماتي الصامتة، فتختطفني إلى زنزانة تغل فيها الأحاسيس، وتكبت فيها المشاعر.....
وأمام الزجاج بدت لي، طيفا سارحا،
خطفت منها نظرة، خلفت عندي سكرة، لكن لم يسعفني الحظ أن أكتشف ما وراءها من أسرار.......
ومن هذا الرصيف الرابض برتابة في شارع العشاق، راجعتني بإشارات، ظننتها تزف إلي بشرى، لكنها تعاندني بالإغضاء، بكيت، وولولت، وأعولت، وتمنيت لو كنت وهما يمر بذهنها، أو حلما يهزها في لحظات لاشعورها،
قالت لي من أنت؟؟ قلت محبرة ناشفة، أرض يابسة،
وحيد أغوته لحظات الأنس، طريد تعرفه أقواس المدينة، وجماهير المتفكهين تغتابني،
في بحر الأفكار المكنونة بذات تنبض بالإشارات، بالإيحاءات، تنتال منها ابتسامة خفيفة تحف الأجواء،
توثبت بقفزة لا إرادية،
أومأت، لا تنظر نحوي، لك مني كلمات ولهى، فلاتظنن الأمل آتيا..!!!
أنت مني على انفصال، فلا تسع في اتصال... لك مقام السكر صاحيا، وأنا في مقام الجمع....
تمايلت ترنحا من سكري، أطرز الأرض بوطء شفيق، وأتدحرج الى قاع الآهات....
أخبو مرة، وأظهر مرة، وأفر من ذاتي المفكرة، لأحل في غور ذاتي المنكوبة بسؤالات الليالي الساهرة...
نزحت الى ضفافها..... باحت لي بسرها.... سعيت من وراء السراب، أحن إلى ذاك السرب،
أتدبر هذا اليوم المشؤوم، أراه نادما سكرانا، يعب على صدري لواعجه، خزيان ملئان من البلابل....
ثم انتهت النشوة، وذابت الجمرة، فأنا هنا خمرة بلا دبيب، صواري بلا أفلاك....
سأبقى فاقدا لكل المعاني، سالبا لكل الحروف، وحين تكلمني، سينتهي الألم، ثم تكون آخر جرعات الحزن.....
ثم أغفو إغفاءة المستكين، أرتقب هزة الروح، وأنفاس حزينة تتصاعد من داخلي، يرجعها الصدى خيطا من نور يتسلل نحو الأفق، يتكوم فوق البنفسجية، يخترق مدار الجاذبية ، يجذبني بمغناطيسية قوية نحوعالمه، فتنسيني الدوال مرافئ الأرض، وأقواس الحياة، وحين التفت إلى جهتها، أدرك أنها تشاكلني بنظراتها، وتماثلني في حركاتي، وتناديني بحبال من سرح خيالها... أقتبس منها صورا، أرصع بها كلمات، أذبح بها أحلاما، واكتب بها قصائدا، وأحكي بها عن الهوى الخابي من وراء الأعاصير... وفي هذا الكوكب البعيد من أحلامي، أتسلل في رماد النسيان، أنيخ بهذه العتمة، أحتمي فيها عن الناظرين....
ثم أنام مع السكارى، أحلم بسهومها، أنظر إلى كاحل ساقيها، أضاجع جسدها المكنون،
وكأنني في مستراح لا بتيها، تضمني إلى صدرها، تحنوعلى بكلمات راضية، تربت بها على جرحي المكلوم،
وتجوس بأناملي المبتورة من زمني الأول خطا فاصلا بين جزيرتين،
بين وهم أباحني ساقا للبؤس المنتشر بين الروح والنفس والأرض.....
وحقيقة أعترف فيها بكوني انسانا بدويا لا أطيق أن أنسجم مع أجواء مدينة تبتعد بخطوات لتقترب مني...!!!
ماذا يكتب شاعرنا ؟؟
شفيف كالذرى، لطيف كالنوى، دقيق كالعطر المنسل إلى واحات أوراقي،
جليل كالهباء ، ناعم كالعيدان،
فهل تشتهيني ذاكرتها كما أشتهيها ؟؟
نزعت عني غلالة الهم، وأزاحت عني عوار القصد، وحين فارقتها تكدرت حياتي،
سديم، هينمات،
تعاتبني، تمزقني،
يالها من لحظة !! أراني فيها غورا، عمقا، سمكة تنتقل بين الأمواج،
طائر، يقفز بين الروابي، يزقزق على الفنار، يعشعش على النخيلات،
يغادرنا صباحا، ويغازلنا ليلا....
بياض يحفني...
فأستوعب جسدها بأجزاء من جسمي، يتحرك بين هذه الأصفاد المكبلة بنظرات حقيرة لا تراني إلا قبلة عابرة من مكروه منبوذ.....!!!!
ليتني اتسع أمامها بغروري، وأتوهج بين خاصرتيها، أهوي إلى جنبها، بذاتي، بروحي، بكياني،
نزعت عنها غلالة البياض، تنورت ليلتي
هذا يوم عرس، تزف إلي ملاك في هودج من زمرد، لم أك موهما، ولا واهما،
أنا في مجرتي أعشق البياض، أتسور البيوت البيضاء...!!!، وأحن إلى الثلوج....
أهيم إلى مجلى الخيول...
شريط من بياض، يتسورني كالمعصم، كقبة بين ضفاف الصحراء، كرماد بين الأثافي....
قبر ثوى تحته روحا، رمادا......يتسلل من تحته الشعاع!!!!
وحين أداخلها، بقلبي، بيدي، تطويني بين حناياها.....
أسافر كالحلزون، أشعر بحرارة حرى، فأتغايب عن الإحساس، وأتفاقد الشعور....
قلب يخفق، وروح تذوب، ولهفة حزينة، ونار حبلى...!!!!!
وحين أتقابل مع مراكز إحساسها، وموارد حركتها، أجدها عطوفة، تدعوني لإستكمال الصلاة في معبد الطهر،
أتمنى أن لاينسى سجودي، وركعاتي، ودعواتي....
شرائط أدنى موسومة بميسم الشبق، فيخترق البرق فصيها، صدرها، جسدها....
إنتقالها من عالم الأرض إلى الأفق.......
فأراها ألفا أليفة، وهاء ممدودة، في سكرة، تنتعش فيها الروح، في حضرتها، في زوالها، في فنائها، في وجدان لذتها....
ريشة تكتب على قلبي سطرا، توعدني بسقوطي، في مهوى الليل السحيق....
ثغور من الجسد الملتهب بالأنوثة المتعثرة في عبق أهازيج الفناء…..
ثم قامت من بين يدي، محمرة وجنتاها، عانقتي للوداع، وحينها بكت، وانسحبت بكلام يعنفني، يرميني بالريبة، يصفعني في وهاد الجفاء، ينقلني إلى ظاهر اللغة، وأمام القاضي، قلت: أنا مجنون، فهل للمجانين قوانين ؟؟ قال: لا، وما زلت أعاني من ضيقه، وهو يريدني متهما، وأنا أقول له: تعلم لغة المجاز، يامن لا يعرف مقام السكر والإنتشاء، يامن لا يفي بطقس الحضرات الحضرات، يامن لا يعرف للجذبة معنى، وللغزل فضيلة...
ثم انفض الجمع، ولم أشعر بها إلا هاربة من خيالي، كما فررت من مطاردة التصريح إلى التلويح، ثم بقيت هنا أتنهد حين علمت أن هذا حلم لا يغتر به إلا الحالم.....