المشاركة الأصلية كتبت بواسطة مأمون المغازي
القاص المتفوق على نفسه : محمد سامي البوهي
وكأني أقف أمام جدك ـ رحمة الله عليه ـ يتأمل الكون ويتدبر الآيات يستقيها من الموجودين ، ويسقط عليها علمه ، لينعجن العلم بالحالة ليأتي إلينا بالخلاصات ، نتعلم منها كيف ننظر في أنفسنا .
بحيرة ثلجية
وقف أمام البحيرة الثلجية ، أراد أن يحدد موقعه ، فضلله البياض المنتشر ، يعلم جيداً مكان البحيرة ، لكنه بات لا يعلم أين الشاطيء.
في هذه اللقطة المكثفة جدًا توقف البوهي أمام العالم ، وأمام الإنسان ، أمام جوانية الإنسان يتدبر حاله ، وهو في الموقف الصعب ، إنها الذات أمام البياض الذي هو أصل الأشياء ، ولكي يبحر بنا البوهي أكثر أوقفنا أمام بحيرة ثلجية ، أمام الثلج : الثبات ، القوة ، النقاء ، الجمود ، التحول ، ولكن هل يكتفى بذلك ؟
لا . إنه التأمل الأعمق ؛ ما تحت الثلج ، الماء أصل المخلوقات .
إنه يقف في حالة تأمل ، حالة بحث عن الطريق ، وفي حالة من حالات اللاوعي يدرك البوهي الحقيقة التي أتته ومضة آنية استشعرها من ذاته ومن قراءاته ، ومن تدبره ربما لحالته الذاتية ، هذه الحالة المفضية إلى السير ، نحو اللجة ، لتكون المفاجأة : إنه ( الإنسان ) بات يعلم من العلم ومن الحالات ما أوصله إلى معرفة الطريق ، لكنه وللأسف لم يعد يعرف حدوده ( أحسنت أيها البوهي ) إنه الإنسان بين الماضي والحاضر والحلم بالآتي ، ولأن المادة تحولت إلى معبود ظالم بات الإنسان يعرفها ؛ لكنه لا يدرك حدودها التي استعبدته .
وكأن البوهي يدق ناقوس الخطر .
(2)
أصابع أبي
صحبني أبي لمحل عمله بأحد البنوك ، قضى وقته بين عدّ خصلات النقود ، وتدوين الأرقام ، عدنا إلى المنزل ، ألقاه التعب على سريره بنوم عميق ، تظاهرت بالنوم جواره ، ثم أخذت في عد أصابعه .
بكل بساطة يمكنني أن ألحق هذه اللقطة الرائعة بما قبلها ؛ فما زلنا أمام هذا الإنسان الذي يقارع الحياة ، ويبادلها الكأس ، لكن هنا يبسط البوهي الصورة أكثر ، لأننا بالفعل ما زلنا بين ملامح الصورة المادية ولكن هنا نقف أمام المادة النقدية المتصلة كلاً وجزءًا بالمادة الأصل ، وأعتقد ان البوهي استطاع هنا أن يستعرض لنا حدثًا يمتد بامتداد المتطلبات البشرية في كبسولة ، نعم هي كبسولة المعاناة ، واللهاث وراء المال ، ولكن أي مال صوره البوهي ، إنه ما يمكن أن يعلق بالأنامل ، كم هو بسيط الحلم ، ولكن هل يتحقق ؟ !!!
(3)
قاتل الموتى
سار مختالاً بحصانه بين الجثث المنتشرة ، لم يُبق على روحٍ واحدة داخل جسدها ، قفز فوق ربوة نتأت عن الأرض الحمراء ، امتشق سيفه عالياً ، وصاح :هااااااااااا، أسرع ناحية الجبل ليقضي على من رد عليه صياحه .
هنا البوهي يكمل الرحلة ؛ رحلة الإنسان مع الإنسان ومع العالم ومع الطبع السلطوي ، والتسلط ، بل إن البوهي من خلال هذا التكثيف يعرض لنا موقعة حربية كاملة استوفت في الذوق ما يجب أن تستوفيه قراءة ، فهذا القائد الدموي الذي قتل كل من لاقاه يطارد الآن الصدى ليقتله باعتباره يرد نداءه . إنها حالة من التأمل على ما يبدو دخلها البوهي ليعرض لنا دموية الإنسان ، البوهي يتطور من حرب الطواحين إلى حرب صدى الصوت ، إنه يتصدى لإحدى القوى العملاقة الجبارة ، لكن في صورة ليست بنائية بالمضمون ، فالمطارد قاتل متجبر في الأرض ، يقتل حتى الموتى ، ( غريزة ) وقد افرط فيها حتى أنه لا يجد الآن من يقتل .
وليسمح لي الأستاذ البوهي أن أعمل خيالاتي هنا ، ربما أستطيع أن أسقط هذه اللقطة على حالة نفسية تقضي بارتداد أو رجع الألم لينصب على الذات في حالة عدم وجود المتنفس ، وكأن هذا الطاغية سيتحول من إيذاء الغير إلى إيذاء النفس لعدم وجود الآخر .
(4)
الرحيل
بين ضفاف الحوائط المظلمة إلا من خيط لظل مضيء ، تهافت البشر للهروب من ضفة الخوف لضفة الأمان بالوجه المستكين ، ضاق الخناق ؛ فاستحال ولوج الأجساد المتصارعة من سم الضوء المنفرج ، التصقت الأنفاس بالأنفاس ، فاحتضر غاز الحياة بينهم ، وبعد ساعات من التدفق لم تطل ، ظل الجانب الآخر خالياً من كل محاولات الرحيل .
هنا توقفت مليًا أتأمل هذه اللقطة الأخيرة فالرحيل هنا اكتسب مدلولات عدة ، ربما قصد به الرحيل المكاني ، وهنا نسقط المدلول على الزحام والهمجية في حالات الانفصال أو الهروب من كارثة ، أو ربما يقصد الرحيل النفسي ، وهنا نسقط المدلول على حالات التحرر من الأوهام التي تختلج بالنفس البشرية ، وليجد الإنسان نفسه مجبرًا على البقاء على ما هو عليه ، لأنه غير قادر على تحديد الهدف ، واستغلال المعطيات وصولاً إلى النتائج .
في الرحيل رأيت عملاً يمثل الإغلاق بالنسبة للقطات السابقة ، في حين يمثل كل عمل من أعمال البوهي هنا حالة فردية وشخصية قائمة بذاتها ، وقد اعتمد فيها جميعًا على السبك اللغوي الدقيق احتواءً لفكره ، و محاولاً ولوج مجال القصة القصيرة جدًا بقوة ، وقد أمتعني بها ، وكأن البوهي يقف الآن في منطقة مؤهلة للتطور في كتاباته القصصية ، لكنه لا ينفصل عن طريقته الكتابية مستغلاً مهاراته المعهودة والتي تميزه ، إلا أنني أعتقد أنه يبدع أكثر في ألوان أخرى من القص أكثر من هذا اللون ، وأتمنى له دائمًا التميز والتفوق على نفسه .
مأمون