الكهف / بقلم الاستاذ مصطفى سلام
يوما سافرتُ إلى كهفى .. (1)
فى رحلة كشف يحدوها شغفى ..
كى أسبر أغواره ..
استبطنُ داخله , استوضح أسراره ..
فوجدت ظلاما لجيـَّا فى كل مكان ..
قد قال حكيم : العالـَـم إثنان :
الأصغر هو هذا الإنسان ..
و الأكبر باقى الملكوت ..
فى كهفى :
أجهدتُ الفكركثيرا .. أعْملتُ العقـل ..
حاولت به أن أصل و نحـّيت النقـل ..
كى ألقى الضوء على أهل الكهف ِ ..(2)
أسئلة حيرى هائلة و ردود لا تكفى ..
أوََ حُــرٌّ ؟ أم أنى محكوم بقيودِ ؟..
أفعالى : مطلقة أم حـُدت بحدود ِ؟..
تنتسب إلىّ ؟ أخلـُـقها ؟ .. أم هى كسبُ ؟ .. (3)
أم هى قدر مقدور فى الأزل و محتسبُ ؟ ..
أحيانا : أعتقد بأنى حرٌ ..
يصعد عقلى فوق سماوات سبع ِ..
و يغوص كثيرا فى اليم و فى النبع ِ..
أو يهبط تحت الأرض ِ..
يتمطى فى الدنيا فى طول , فى عرض ِ..
ترضيه إجابات .. و كثير لا تـُرضى ..
و يعود من الجولة مقتنعا بقضية :
" صعب جدا إدراك الماهية ".. (4)
الكون قليل ما يبدى , و كثير ما يخفى ..
ما عُـلم أقل من الذرة فى بحر مخفى ..
فى الكهف لقيتُ مشاكل مشتعلة ..
البعض أصيلٌ و الأخرى مفتعلة : ..
الخير هو الطبع المركوز أم الشر؟..
أيهما أعتقد , و أيا أحتسبُ ؟..
أم نفس بيضاءٌ : ما فيها مكتسبُ ؟.. (5)
أحتاج لكى أحيا - فى الواقع - مجتمعا ..
نتبادل حاجات , نتعاون و نعيش معا..
ولهذا أتنازل عن جزء من ذاتى ؟ ..
فى هذا استمرار لبقائى و حياتى ..
لكن : كم يبلغ حجما هذا الجزءُ ؟..
أحيانا هو جوْر أو قيد أو رزءُ ..
فنعانى أحيانا طغيان الفردِ ..
تغريه القوة , فيكشر كالأسد ِ..
يتفنن فى البطش و ألوان القيد ِ..
قد يطغى المجتمع ُ , فنصير له الترسْ ..
نتحول آلات , قد حرمت حتى الهمسْ ..
و أعود من الكهف - كما رحت - مع الحيْرة ..
بل أكثرَ جهلا لا أجد إجابة ..
قد غطت عقلى مليونُ سحابة ..
لسؤال أوحد ما عندى غيره :
ما أنا فى هذا الكون و ما دورى ؟ ..
سلمت إلى الخالق يا عالم أمرى .
مصطفى سلام
---------------------------------------
(1) ذاتى
(2) مكنونات الذات
(3) نظرية الكسب عند الأشاعرة
(4) الماهية : حقيقة الأشياء
(5) يقول بعض الفلاسفة : العقل صفحة بيضاء تملأ بالمكتسبات
******************************
الحرية الشخصية هي ان افعل ما اشاء وكيفما اشاء ومتى اشاء؟ وان كانت مقيدة ..لماذا ومتى وكيف...
النفس تجزع ان تكون فقيرة
والفقر خير من غنى يطغيها
وغنى النفوس هو الكفاف - فإن أبت -
فجميع ما في الارض لا يكفيها
***************************
قي رحلة وإبحار في اعماق ذات الشاعر الاستاذ الكبير مصطفى سلام...
يأخذنا الشاعر الكبير في رحلة الى ساحة الفكر الذاتي حيث تلمع في جوانبها جميع المعطيات مفردة
ومزدوجة .. ولقد قام مبدعا آسرا برصد التفاصيل وفرز كل معطى على حدة بتمثيلها جميعا الواقع المجرد من خلال تسجيلٍ نظمي شعري متميز لهذه الرحلة في زروق الفلسفة الذاتية مع الخالق والوجود إبداعا ونظما رائعين..
تميز نص الشاعر الكبير مصطفى سلام بسلاسة النظم الممتع في وجوب الخوض في اعماق النفس البشرية..متجها بنصه الثري هذا الى الدعوى العامة الغير مباشرة للاخر باتباع الطريقة نفسها بادئا بنفسه اولا ..معطيا الدلالات راسما خريطة طريق الى كيفية الاعتكاف مع الذات منتهيا بسؤال واجابة ..ايقن انها هي الحد الفاصل
دارت القصيدة في المحاور التالية"
• امور استبان رشده فيها فاتبعه
• وامور استبان ضررها فاجتنبه
• وامر اشكل عليه فتوقف عنده؟؟
ولكنه استدرك ماهيته فأجاب عليه بيقين المؤمن بالله جل جلاله بالاستسلام اولا واخيرا لذاته العظيمة
مؤكدا بطرح معطياته وتساؤلاته واختياراته لإجابات تحمل طابعا كونيا تجريديا تتجلى فيها تلك الأزمة الوجودية القائمة على الصراع بين الذات والاختيارات القائمة امامها ومن ثم التأمل في الآخر ( العالم والوجود) مدرجا اياها بالتنويه الغير مباشر موضحا الأزدواجية و مفاهيم البشرية مصبوبتين في قوالب الحرية والقيد بمعناهما المطلق والمحدود معان متضمنة "هل الانسان مخير ام مسير؟" وذلك من خلال رحلة حياته ..التي صبها في مصوغات تقيدها بموروثات اكتسبها الانسان وذاته عبر التقاليد والقيم: هل أدوات النفس مكتسبة ام آنها موروثة / محدودة أم مقدورة ام هي مقدرات محسوبة ام اختيارية مدرجا بمهارة الصب السردي الخير / الشر/ النفس وماهيتها
يأتي شاعرنا القدير في هذه القصيدة الرائعة الاتجاه بفرز محتوى هذا الاطار مسلطا الضوء على كثير من الدراسات والقراءات النفسية التي قام بها مواكبة مهارته وتجربته الشعرية واضعا التقنيات الاسلوبية اللائقة بمفردات وصيغ توقف من خلالها عند محطاته الفكرية ومناخاته النفسية التي سايرت أسئلته الوجودية، فبدى واضحا جليا من خلالها اهتمام الشاعر ببواطن الابداعات النفسية.. والذي تكشف في استحالات متعددة في مقارنات شكلية مرتدية ثوب صور تشبيهية متضادة منتهيا بنتيجة حتمية الا وهي القناعة والرضى بقضيته التي شكلت النص بوجع عام: الا وهي رحلته داخل أغوار النفس ..معتكفا واضعا امامه جميع المعطيات والاختيارات الممكنة لكشف ماهية هذه الذات..
لم يقف الاستاذ الشاعر مصطفى سلام لا عاجزا ولا معترضا امام تلك الاختيارات والتضادات الموضوعة امامه فقد طرح ببراعة كيفية التعامل مع امكانيات العلاقات الاجتماعية مدرجا ماهية المجتمع بصورة متحركةمتحررة من كل القيود اللغوية بارعا براعة لا توصف من خلال تعيين ما على الفرد من مسئوليات وواجبات وحقوق كفرد تجاه نفسه وتجاه الكل ..كتبادل المنافع والتنازل لكي ترجح كفتي الميزان ويعيش الكل في سلام وامان واطمئنان مصورا في الوقت نفسه ، مدرجا صورا تطغى على المجتمعات كالسيادة والعبودية والطغيان مما يؤدي الى ان تخرس الالسنة وتستسلم لليد العليا المسيطرة بدت لي جمالية التعبير هنا –كمتلقي- تبلور هذه النظرة واسلوب تطبيقها بوصفها علما لدراسة مجتمع بأسرة..
و أعود من الكهف - كما رحت - مع الحيْرة ..
بل أكثرَ جهلا لا أجد إجابة ..
قد غطت عقلى مليونُ سحابة ..
لسؤال أوحد ما عندى غيره :
ما أنا فى هذا الكون و ما دورى ؟ ..
سلمت إلى الخالق يا عالم أمرى .
هنا يعود الشاعر من حيث اتى.. فرار إلى الذات الالهية بالاستسلام المعلن لجلالة عظمة الله من حيرة النفس الانسانية
اهو الفرار من معاناة الشاعر بالعودة الى نقطة الانطلاق صفر اليدين؟ كلا إن روح إنسانيتة بحثت عن الدفء والعطاء بحثت عن الذوبان في ذاتها ومعانقتها لإحساس كبير بالإغتراب والضياع في جحيم الحياة الذي يجعله وكأنه يحيا في جهل مطبق واضعا مسائلات واجابات لاختيارات اتسمت وتميزت بفيض المشاعر وجميل الأحاسيس وقوة الإنفعالات الإنسانية ورفض الوصاية الإجتماعية المقيدة لحرية الإنسان وحيلولة تقف دون تمتعه بما ورثه الله للبشر في الارض يعيش ببساطة وصفاء بأسلوب رائع غير فارض رأيه على الاخرين بل بمقاربة للعلاقات الانسانية بين بني البشر ورصد تقاطعاتها وتناقضاتها وكيف يمكن ان تدمر الافق الممكن للتضامن الانساني والوحدة الإنسانية التي هي دائما في حاجة لشد بنيانها بعضه ببعض..بدعوة ضمنية للاتجاه نحو نوعية تحالف مكتمل بالعروض عن الفوراق والنقائض التي تفسد المجتمعات الانسانية..
لتكن هذه القصيدة بداية اللقاء فوق ضفاف هذه القاعة المورقة ولنا لقاءات أخرى وشعراء من اعضاء الواحة وروادها....
تحياتي
لميس الامام