جلس في الكرسي المقابل للمحقق، نظر إليه الأخير نظرة المتفحص الخبير ، صمت لف الجميع للحظة ، ثم انفرجت شفتا المحقق قائلاً :
_ مرحباً بك يا أحمد عندنا .
عقد أحمد يديه المقيدتين أمام المحقق ، منتظراً منه وابلاً من الأسئلة المتنوعة، إنه يتذكر دروس الأمن التي تلقاها على يد الكثير من السجناء المحررين.
- ماذا تحب أن تشرب؟ سأله المحقق أبو يعقوب.
- إن أمكن فنجان من القهوة.
_هل تريد معها سيجارة
_لا ، شكراً لا أدخن
_هل أنت جائع؟
صمت أحمد قليلاً ،المحقق يعرف أنه لم يذق الطعام منذ يومين.
_ حسناً ، كوب من القهوة و بعض السندويشات . قال أبو يعقوب ثم أردف قائلاً : أحمد إلى أن يجهز الطعام ، أريد أن أسألك بعض الأسئلة ، هل أنت مستعد لها ؟
أومأ أحمد رأسه بالإيجاب
_ حسناً ، أنت أستاذ ودخلك المادي جيد، متزوج وعندك طفلين، سعيد في حياتك ، قل لي ما الذي ينقصك لتكون مخرباً ؟
ابتسم أحمد ولمعت عيناه بشكل واضح وظل صامتاً .
_ أوه يبدو أننا أمام رجل صلب ، ربما أيام في الحبس الإنفرادي ستجعلك تنطق.
_ أسمح لي ، أنا لا أعرف بالضبط لماذا جئتم بي إلى هنا.قام المحقق من مكانه ليستدير واضعاً يديه على كتفي أحمد ، وهامساً في أذنه : أحمد إن أحببت أن تخرج من هنا فيجب أن تنطق.
_ صدقني ، ليس عندي ما أقوله، وبالفعل أنا لا أعرف ما هي تهمتي.
_ نعم نعم ، كلكم يقول نفس الكلام ، لا أعرف ، لا أستطيع ، وفي النهاية تعترفون.
حينها دخلت مجندة تلبس ثياباً عسكرية، غير أن قميصها العسكري مفتوح ، وتحمل صنية عليها بعض الأكل وكوبين من القهوة ، ثم انحنت أمام أحمد ليظهر أمامه شيء من مفاتنها ، فيغمض الأخير عينيه، ومن ثم تخرج المجندة.
يبتسم أبو يعقوب قائلاً : إنها من أجمل الفتيات عندنا، ولقد أسرت لي أنها معجبة لك.
ابتسم احمد قائلاً : لم أمكث هنا إلا يومين ، فهل هذه الأيام القليلة كفيلة أن تجعلها معجبة بي ؟
- تجيد فن الحوار يا أحمد ، ربما لأنك خريج كلية علم النفس سنجدك غير الآخرين، والآن تناول طعامك .أمسك أحمد بالرغيف بيديه المكبلتين، وتعمد أن يمضغ في بطء، حتى يجهز نفسه لجولة جديدة من التحقيق، وبدا وهو يأكل كأنه غاب عن عالم الحضور، وكان المحقق ينظر إليه نفس النظرة الفاحصة.
بعد أن انتهى أحمد من طعامه وكوب قهوته، نظر إليه المحقق نظرة بدت لأحمد أن فيها شيء من الإحترام، أو لعل المحقق أراد أن توحي النظر له بذلك.
_ أحمد ، صدقني لن تخسر شيئاً ، انطق بالذي عندك وسأكون متعاطفاً معك.
_ صدقني لا فائدة ترجوها مني ، أنا إنسان بسيط وقانع بوظيفتي وليس لي علاقة بأي جهة معادية لكم .
_ ربما يثبت شيء أخر في المسلخ (1)
هز أحمد رأسه بثقة وطمأنينة، كانت الأمور تسير كما رسمها في عقله، ستتعاقب عليه جولات من التحقيق الجسدي والنفسي، سيفتح له المجرمون في الليل أصوات عالية مخيفة، سيصلب على الحائط، سيضرب بالهروات على جسده ، سيرمى في الحبس الإنفرادي ، ثم يعود المحقق ذو الوجه السمح لملاطفته وإطعامه ، وسؤاله أيضاً ، وبعد أن ييأس منه سيدفعه إلى المجرمين ، وهكذا.
ظل أبو يعقوب صامتاً ينظر إلى أحمد ، يتأمله جيداً ، كان يمتلك جسداً رياضياً مخيفاً يبدو كأنه مصارع أو بطل من أبطال كمال الأجسام، جعل المحقق يفكر بالطريقة المثلى لجعله يعترف.
_حسناً يـا أحمد يبدو أننا وصلنا معاً إلى طريق مسدود، ولذلك سنفترق الآن، ولكن تذكر، وقتما تريد الكلام قل لمن سيكون معك أريد أبا يعقوب، أتفقنا ؟_ أتفقنا
حينئذ دخل بعض من الجنود إلى الغرفة الضيقة ، ليقتادوا أحمد إلى مجهول هو يعرف حيثياته جيداً .
وفي الغرفة الأخرى كان أبو يعقوب يدلي بتعليماته لمن سيرافقون أحمد في جولات قادمة:
_هذا الرجل ليس بسيطاً ، إنه يملك الكثير من المعلومات ، وفي المقابل يملك الكثير من الثقة والقوة والصلابة، ربما لن يجدي التحقيق الجسدي معه كثيراً ، فركزوا على الجانب النفسي، اجعلوه يهتزـ يتزلزل، أهينوه، أدخلوا عليه المجندات ليداعبن جسده، أريده أن يفقد الثقة بنفسه.بدا أبو يعقوب وهو يتحدث كوحش كاسر، يختلف كلياً عن الإنسان الوديع الذي كان يحادث أحمد قبل دقائق.
ترك أحمد في زنزاته الإنفرادية لمدة أسبوع، هدف المحققون بذلك أن يحبطوه، لكنه رتب أفكاره، فغدا قلعة لا يمكن اختراقها.
أقتيد أحمد إلى المسلخ، يسمع وهو مغطى الوجه أصواتاً لإناس يُعذبون، مع التركيز القليل فهم أحمد أنها أصوات افتراضية وليست حقيقة، فنظمها وترتيبها لا يمكن أن يكون حقيقاً .
ابتسم بظفر ، لم ير أحد ابتسامته.
أجلسوه على كرسي ، قيدوا يديه وقدميه، اقترب منه أبو رامي ، ذو وجه إجرامي ، فيه أثر ندوبات واضحة، نظر إليه أحمد بعد أن أزالوا عنه القناع، رأي فيه عينيه ذئب ماكر.
_ أحمد ، ستتمنى أن أمك ما ولدتك.أبتسم أحمد في ظفر، كان ابتسامته في هذه اللحظة واضحة، ضربه الجندي على رأسه بالهراوة، أنبثق الدم، ازدادت ابتسامة أحمد، إزدادت الضربات على جسده، وهو يبتسم.
كان يفكر، يجب أن انتصر في هذه المعركة، يجب.
_ دعوه ، يكفيه اليوم، اصلوبه لصباح الغد على الحائط
تجاوب الجنود في حركة آلية، قيدوه على الحائط، وتركوه.
كانت ليلة قارصة البرد، جسده العاري إلا مما يغطى وسطه أخذ بالتفاعل بطريقة غريبة مع الجو المحيط، الجروح التي أصيب بها في رأسه أخذت تأن ، لكنه لا زال يحتفظ بذات الإبتسامة الظافرة.
كان أبو يعقوب ينظر بتفحص وهدوء إليه من خلال شاشة تلفاز مثبتة بكاميرا مراقبة، ويسجل ملاحظاته، ثم أطفأ جهاز التلفاز والتفت الى معاونيه قائلاً لهم:
_يتضح لي أنني أمام شخصية مثيرة للإعجاب والجدل في آن واحد، رغم الجروح التي تملأ جسده إلا أنه يبتسم ، بكل بساطةفي الصباح ، فكوا قيوده وأدخلوا إليه سالي ، هذه الفتاة تعرف كيف تذيب الرجل، وسجلوا كل شيء .
_ حسنا كما تريد أيها الرئيس. قال أبو رامي .
في الصباح ، طالع أحمد بعد أن فكت قيوده ، وجه فتاة غاية في الإغراء والفتنة، هي ذاتها الفتاة التي قدمت له الطعام ذلك اليوم.
ابتسم أحمد ذات الإبتسامة ذي الظفر، كل شيء يسير وفق ما فكر وقدر ، اقتربت منه سالي في دلال، وقد فتحت قميصها بالكامل، وتزداد ابتسامة أحمد.
كان أحمد متربعاً على الأرض، يتلو قوله تعالى : "وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين".
اقتربت منه اكثر، شعر بأنفاسها الحارة، حاولت أن تمد يديها لتداعب جسده، صفعها على وجهها صفعة جعلتها تقع على الأرض صارخةً بالبكاء، يدخل عليه الجلادون وتخرج تلك الساقطة، يوسعوه ضرباً، يبتسم ذات الإبتسامة ذي الظفر، يأن جسده ولا تأن روحه.
يهتف أبو يعقوب : لا ، لا يمكن أن يكون هذا الرجل إنساناً عادياً .
تضاخم أحمد فوق ضخامته أمام عيون المحققين، أصبح الجنود يخشون الإقتراب منه، رغم أنه يستقبل اللكمات والركلات من غير أن يدفعها عنه ولو دفعاً بسيطاً ، دار الحديث بين الجنود : إنه جني وليس إنسي.أزداد الخوف منه ، من ابتسامته ذات الظفر، علقه المحققون بيد واحدة في السقف، لم تفارقه الإبتسامة علقوه من قدمه اليمنى ، اليسرى ، قلعوا أظافره، عرضوه لصدمات الكهرباء ، لا فائدة.
قال أبو يعقوب : أتركوه في حبسه الإنفرادي، سنرى أمره فيما بعد.مكث شهراً ، تتمدد عضلاته ، تزداد ابتسامته، ينظر بتحد إلى أعلى السقف حيث يعرف أنه ثمة كاميرا مراقبة مخبأة، لا تتحرك شفاه إلا بأيات الله وذكر الله والصلاة.
يرى الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام " أصبر يا أحمد ، إن موعدك الجنة"
يصبر أحمد ، تأن جروح جسده ولا تأن روحه، يأثر البرد القارص عليه ، لكن لا يشتكي ، يكتفي بالصمت وبذات الإبتسامة.
بعد مضي الشهر يخرجوه ، ليرى أبا يعقوب لأول مرة بعد فنجان القهوة، يجلس على مقعد خشبي متهالك، يجلس أبو يعقوب قبالته على المكتب.
_ أخبرني أبو رامي أنك ضربت سالي ، لماذا؟
_ تخيلت أن شيطاناً أمامي فضربته
_ اه ، لم تكن ترى أمامك فتاةً حسناء ؟
_ أبداً ، أنا لا أضرب النساء
ابتسم احمد ، وابتسم المحقق، ثم قال:
_ أحمد سأخرجك من هنا ، ولكن نريد أن نتعاون سوياً .
_ اظن انك طرقت الباب الخطأ ، أنا أعيش وحيداً ولا أعرف التعاون مع أحد
_ حسنا كما تحب ، غداً سنطلق سراحك ، والآن اغتسل وهذب شكلك، سيأتي لك طبيب السجن ليرى جروحك
قام أبو يعقوب ، دخل الجلادون ، رافقوا أحمد برفق إلى حمام السجن ، اغتسل ، ثم أودعوه غرفة واسعة فسيحة، دخلت عليه طبيبة السجن ، غاية في الجمال والرقة، أخذت تعالج جروحه، ثم تتفحص نبضه، امتدت يدها لتعبث معه قليلاً ، لبس قميصه بسرعة وشكرها ، قامت مغضبة.
في الصباح أخرجوه ، وبعد ثلاثة أشهر ، أعلنت قوات الإحتلال عن مقتل 5 جنود بيد شاب يسمى أحمد.
أنتهت
[line]
1. المسلخ المكان الذي يعذب فيه الأسرى على يد قوات الإحتلال