قصة قصيرة جدا : أضغاث أحلام
بقلم : محمد بن الطيب الحامدي
" ... لا غداء ، طيب !! المطعم ؟؟ وهذا اللهيب ؟؟؟ ليكن دش وزبادي ونوم "
ثم سرعان ما تخلى عن فكرة الدش . " جوع وماء وتعب ...! " و فتح " الثلاجة " ثانية " صرير باب هذه التحفة النادرة يذهب بكلّ شهية " . أخرج منها كل ما يمكن أن يؤكل : حبة طماطم ، ورغيفي خبز وخيارة ذاوية سوداء وبقايا علبة " زبادي " . وضع الكل في طبق وجلس أمام جهاز التلفزيون ، فرح جدا بمسرحية " الزعيم " فأشعل سيجارة ونسي الغداء وبدأ يتابع ويضحك لوحده ز وقبل أن تنتهي السيجارة ، كان يغطّ في نوم عميق . تراءى له أنه يمشي في شارع مشهور . على جانبي الشارع بعض المارة يحملون أكياسا تشع ألوانها خيرا ورفاها ، ويسرعون إلى سياراتهم . وفوانيس الشارع مضاءة بالنهار . وقف عند أحد المحلات التجارية ز تراءت له خطيبته التي لم يرها سوى مرّة واحدة . لقد حان موعد السفر وكان عليه أن يرحل ، " يا الله ... " تعب جدا وهو يستحضر صورتها وهي تغالب دمعة الوداع الخجولة . وساقه الخيال إلى حديقة مهجورة تماما إلا من جسمين نحيلتين . " من يرتاد الحدية في هذا اللهيب الحارق ؟؟ !! " ثم قفز السؤال إلى ذهنه في تحد وإصرار : " ماذا أفعل هنا ؟ وبدأ السؤال يلح عليه إلحاحا مقيتا ويطرق دماغه طرقا عنيفا . ثمّ تكاثرت الأسئلة . وبدأت تنبح في رأسه وكأنها جراء صغيرة . " ماذا جنيت من سفرك هذا ؟ متى ستغادر أغلال الغربة ؟ متى ستتزوج ؟ متى سيكبر أبناؤك ؟ ... " وشعر بصداع شديد يكاد يمزق أنسجة خياله ، فأغمض عينيه بعنف أشد . وفي بركة راكدة تجمعت فيها الأوساخ ، وقد كانت " نافورة " تزين الحديقة في يوم ما ، ركّز بصره وكأنه يبحث عن وجه خطيبته في ذلك الركام من كلّ شيء . فرأى دمعة كبيرة تنزلق تدريجيا وببطء شديد على جدار تلك البركة . كانت دمعة شفافة في البداية ، ثمّ صارت داكنة ز وهاهي تصبح حمراء قانية وكأنها الدّم . ثمّ هاهي تغادر هدوءها وتنتفض متفجّرة إلى قطرات دمع حمراء تشق حمرتها خطوط سوداء . أصابه الذّهول لكثرتها . ثمّ إذ بها تتخذ صورا أخرى وتمشي على حافة البركة ز لقد بدأت تكبر في شكل جرو كبير ز وبدأ نباحه يغطي على كلّ الأصوات الأخرى . النّباح الحاد يشتد وكأنّه يحاكي لفظ " ماذا تفعل هنا ؟ " ورأس الجرو يكبر حتى غطى مساحة البركة جميعا . بل ها هو يتجه نحوه فاتحا فما داميا ، أسنانه من نار ولسانه لهب مضطرم ،مضطرب . " ماذا تفعل هنا ؟ " لطالما أخافه هذا السؤال وأوهن فكره . ولكنه ... الآن وحش مخيف ، مرعب ، لا صورة له ولا كيان يرى ولا يمسك ويسمع ولا يحس . أقترب الوحش كثيرا وعلا صوته الحادّ أكثر مردّدا نفس النغمة الحارقة " ماذا تفعل هنا؟ " ز وشعر وكأن الشجيرات القليلة الشاحبة في الحديقة كانت تردّد نفس النغمة . وبدا له وكأنه يسمع صوت طبول هائلة تردد نفس النغمة . وارتجف كل شيء حوله . وأظلمت الدنيا إلا من لهب كان يقذفه ذلك الجرو الوحش .. لم يشعر بالخوف لكن ذلك اللون الأحمر المخطط بالسواد كان يضغط على صدره حتى ضاق تنفسه . وبدأت تلك الأصوات تدق حواسه وكلّ سيء حوله كان يردّد " ماذا تفعل هنا ؟؟ " فوضع يده مرتعشة على رأسه يتحسسه ويتأكد من أنه مازال ثابتا بين كتفيه . وطفق الجسم النحيل النائم قربه في زاوية من الحديقة يسعل سعالا حادا ففتح عينيه وأخذ يفركهما بيدين متشنجتين .. نظر فإذا هو في غرفته وبقربه طبق " الفداء " والتلفزيون يصدر ذلك الصوت الذي يصدره كلما انتهى الإرسال . تمطى قليلا وهو يتساءل : " أنمت كلّ هذا الوقت ؟ " ودّ يده إلى طبق الغداء وهو يردد " أضغاث أحلام " .......
كتبها : محمد بن الطيب الحامدي