يبدأ شاعرنا قصيدته بمشاعر الحيرة والاضطراب فهو يفتش القلب ويفحص الذاكرة .. لينقلنا من مدار التذبذب الى ولاء الانتماء دعوني ارتحل مع خريدته في بضع نقلات
النقلة الاولى
فتشـتُ فـي قلبـي فلـم أجِــد ِ
إلآك ِ قنديـلا يُـضـيءُ غــدي
وفحصـت ذاكـرتـي : أفاتـنـة ٌ
أخـرى يُنـادِمُ طيفَهـا خَلَـدي ؟
\
والسماوي الذي طالما اتحفنا ببديع تصويره هاهو يضعنا اليوم امام صور مستدثة
يقول
ونخلـتُ حنجرتـي لـعـلّ بـهـا
بعضَ الصدى مـن هنـدَ أو دَعَـدِ
ونخلت حنجرتي ... قد لايستسيغها المتلقي إذ لم يشاهد حنجرة تغربل
ولكنه حينما يكمل المقطع الشعري
فوجدْتـهـا تـشـدو لِيُثمِـلـهـا
ما فيكِ من طيبٍ .. ومن غَيَـد ِ(1)
ووجدْتنـي مـن دونهـا شـفـة ً
خرساءَ .. أو جفنـاً الـى رَمَـد ِ!
فالشاعر يغربل من قلبه كل الحسناوات وتصبح شفته خرساء الا من ذكر الحبيب الاوحد
\
النقلة الثانية
ينتقل الشاعر بعد طور الحيرة والتذبذب الى طور الاستفهامات العقلانية ..
يقول
مـا أنـت ِ؟ قوليـهـا علانـيـة ً
هلآ أجَبْـت ِ سـؤالَ مُفتـأد ِ؟ (3)
يكرر هنا تمنياته ليحاول استفزاز معشوقته لتفصح عن كنه عشقها .. ماأنتِ ؟ قوليها !
وهو يعلم ان لاإجابة تسع صريح عبارته فيتدارك نقلته ليقول لها ..
أنسـاك؟ حاشى!عهـدَ مُحْتـنِـفٍ
أهواك ما عمّـرتُ مـن أمَـدِ (3)
ثم يعاهدها على خلود عشقه ..
تبقيـنَ مـا ظـلّ الفـؤادُ عـلـى
ديـن ِ العظيـم ِ الواحـد ِ الأحـدِ
ثم يربط ولاءه وقدره في العشق ان الروح منه اختارت روحها ولاعلاقة البتة لجسده في هذا الهوى الامجد .. فالشاعر وهو بخورها وصداها يتمثل عالم اللطائف لا عالم المادة المقيت
جسدي؟ رميتُ بـه إلـى جَـدَث ٍ
يمشي معي.. لا تحـذري جسـدي
فأنـا بخـورُك ِ يــا مُبَـشـرة ً
بعَفـاف ِ مسنـود ٍ إلـى عَـمَـد ِ
وأنا صـداك ِ كتمـتُ حشرجتـي
وغدوت ُ رَجْـعَ صُداحِـكِ الغـرِدِ
شُـلّـتْ إذا مَــدّت ْ لفـاتـنـة ٍ
أخـرى مناديـلَ الهيـام ِ يــدي
وتهشـمـتْ مـــرآةُ مقلـتِـهـا
عينـي إذا تُغْـوى بِمُنتـهِـد ِ (4)
النقلة الثالثة
وهذه وقفة خطيرة ... يقفها الشاعر معلنا ً ؤعلى الملأ ان مستقبله مرهون بعشقة النقي هذا وانه هو المسؤول يوم الحساب عن صفقة العشق هذه ... له مالها وعليه ماعليها .. انها صفقة تنجي او تودي بصاحبها الى ألم الانتماء او الضياع ...
مـا حُجّتـي يـومَ الحسـاب ِ إذا
شهَـدَتْ علـي ّ بنكثِهـا عُهُـدي ؟
أوَلسْـتُ مَـنْ أدّى يميـنَ هــدىً
جَهْـرا ً وأشهَـدَ عِـزّةَ الصَمَـد ِ؟
أنْ لا يُبـايـعَ غـيـر َ مُفطِـمـهِ
وسرابِـهِ وِرْدا ً لثغـر ِ صـدي ؟
ولقد ظمِئـتُ وكنـتُ فـي غُـدُر ٍ
فشربـتُ نيرانـي ولـم أرِد ِ (5)
وهنا اتوقف مع شاعرنا ورهف حسه
يقول
قنَعـتْ بصابـك ِ غيـرَ آسـفـة ٍ
كأسي .. فيا صابَ الحبيب ِ زِد (6)ِ
انه يحاول ان يخبرنا ان علقم الحب عنده شهد
ولاعجب
فقد قال بن ماضي يوما
لاتطلبن محبة من جاهل ... المرء ليس يحب حتى يفهما
وارى الشاعر قد اجاد ايما اجادة وهو يفصح لنا عن قدرته الشعرية المذهلة في قنص المعاني بأيس الالفاظ وتحقيق كثافة فكرية في بيت واحد
انصح ان يكتب هذا البيت بماء الذهب
النقلة الرابعة
ورضيتُ من بحـرٍ صبـوتُ إلـى
ياقوتِـهِ بالـرمـل ِ والـزَبَـد ِ..!
ما حيلتـي ؟ فلقـد خُلِقـت ُ إلـى
سوط ِ العذاب ِ ومِديـة ِ النَكـد ِ..!
والصورة هنا تبدو للوهلة الاولى انها صورة تذلل فكيف يستقيم لعاقل ان يقنع من ياقوت البحر ببعض رمله ؟
والصواب هنا
ان الشاعر سطر في بيتين الجمع بين النقيضين ... فرمل الحبيب هو الياقوت ذلك ان الحبيب ذاته هو مورد الياقوت بل هو الياقوت كله والبحر بحر الشعور ... بامواج المودة
النقلة الخامسة
يقول
للموحشـات ِ أكـنـتُ مُغتـربـاً
دامي الخطى أم كنتُ فـي بلـدي !
للـمـوت ِ يجفـونـي فأتبَـعُـه ُ
أملا ً بعطفِك ِ يـوم َ مُلتَحَـدي (7)
يعرض لنا الشاعر اشكالية الموت والحياة والفناء ... فغرباه عن بلده تلح عليه وتعرض لنا تفاصيل ازمته الحقيقية ... انه يريد معشوقته ... تراب البلاد ... فيأمل ان تعطف عليه يوم الملتحد
واعجب هنا من شاعر وظف قيم الجمال بقيم اللوعة ... انه الشاعر العملاق سامق السماوة الأغر
يأتي ليربط لوعة العشق بلوعة طرده ويصور ذاته الغريبة على انها ذاتا ً يتيمة
أنـا "قيسُـكِ "المطـرودُ خيمـتـهُ
بيـن الخيـام ِ يتيمـةُ الـوتَـد ِ !
الله اكبر ... ماأشد نقائك ياسماوي
***
النقلة السادسة
يا حزنَ ماضي العمـر يـا أبتـي
يا صبرَ باقي العمـر ِ يـا ولـدي
رِفقـاً بعكـازي .. فقـد وهُـنَـتْ
ساقـي .. وأحداقـي بـلا مَــدَد ِ
أسْرَفـتَ فـي إذلالِــه ِ عَسَـفـاً
فارْفِقْ بـه ِ يـا حـزنُ واقتَصِـدِ
جِئنـي بهـا صَحْـوا ًلِتوقِـظَ بـيْ
طفلَ المنـى فيَشـدّ مـن عَضُـدي
عطفـا ً علـيّ ورحمـة ً.. فلكـمْ
نادى الرسيفُ وليس من أحـد ِ(8)
يا مَنْ أسَرْتَ غـدي أغِـث أملـي
إيّاكَ تُرخي لحظـة ً صَفَـدي (9)
سَيَضيـعُ لـو أطلقـتَ مُختـبِـلا ً
طـارتُ حمامتـهُ ولــم تَـعُـد ِ
نثـرَتْ عليـه ِ هديلـهـا فغـفـا
طفـلا ً تهدهِـدُهُ يــدُ الـرّغَـدِ
ونـأتْ.. فعـاد نزيـل َوحشـتِـهِ
يمتارُ من جمر ٍ ومـن كمَـد ِ(10)
يبُـسَ الضيـاءُ علـى نـوافـذِه ِ
أمّـا ظـلام ُ دروبـهِ ؟ فَنَـدي !!
فاحكـم ْ عليـه ِ وِثاقـهُ حَــرَداً
لمزيد ِ تِرحال ٍ بـلا سَنَـد ِ (11)
\
الشاعر ينقلنا الى لب القصيدة
ويصرح بعد مالمح عن لواعجه ويكشف لنا سر حزنه ... انه الغريب الذي أبكاه فراق العراق واوجعه وجع العراق وغد العراق ولقد وجدت في سورة يوسف الآية تقول لشاعرنا : إنه لاييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، وقصة العراق عجيبة وأعجب من قصة رسول الله يعقوب الذي خسر ابنه عشرات السنوات، لينقل له خبر ضياع الولد الثاني الذي يحبه، مثل الأول الذي ضاع (يوسف)!!
كان جواب شاعرنا
أمّـا ظـلام ُ دروبـهِ ؟ فَنَـدي !!
كما كان جواب النبي يعقوب أنه عسى الله أن يجمعني بهم جميعا، فالأمل زادنا ياسماوي
ومع اشتداد حلكة الظلام تشتد همتنا لانتظار الصبح .
ويقولون اشتدي أزمة تنفرجي، قد آذن صبحك بالبلج،
كان ذلك في الكتاب مسطورا
النقلة السابعة
أنا أنتَ ، حَدِّق ْبـيْ تجـدْكَ علـى
شفتـيَّ مكتوبـا ً وفــي كـبَـدي
أنا أنـتَ.. فتّشنـي تجِـدْ بدمـي
ما فيكَ مـن جمـر ٍ ومـن بَـرَدِ
تجد "الفـراتَ" يسيـلُ مـن مُقلـي
دمعـاً فأشـربـهُ عـلـى جَـلـدِ
تجِـدِ الخـرابَ "البابلـيّ" عـلـى
وجـهـي وذعرَالعاشـقِ"الأكـدي"
أنـا "بـابـلٌ" وأنــا حرائقـهـا
ورمادُهـا .. وشريدُهـا الأبــدي
و"السومـريّ" الطفـلُ أنسـج مـن
عشبِ الضفـاف وزهرهـا بُـرَدي
وأنـا "الرصافةُ"بـات يُوحِشـهـا
جسرُ الهوى حيـث الزمـانُ رَدِي
وأنـا "السماوة"حـيـث نخلتـهـا
سعفٌ وعِذقٌ غيـرُ مُنتضِـدِ (12)
والمستجيـرُ ببـئـر ِ غربـتِـه ِ
هلا مددت ِ إليـه مـن مَسَـدِ(13)
إنْ قـد عُدِمـتِ الحبـل َ ينـقـذهُ
مدّي لـه ُ طوقـا ً مـن الرَشَـد ِ
هـل تسأليـن َ الان كيـف أنـا؟
أنا في الهوى : بـدَدٌ علـى بـدَد
\
وهنا اتغالب على دمعي وهو يفضحني
والسماوي يبكي فجيعتنا وينطق باسم الصبح الندي لكل المتعبين وكل الابرياء المشردين
الذين ظلموا سينصرهم الله من بعد ظلمهم ... ياسماوي
وفي النهاية فإن العراقيين بعد كل الالام وكل العذاب لسوف يتجهون لغد أجمل
وسننفض بأيدينا كل فواجع العدو لأن العمالقة لايبقون الا عمالقة
اما الذين يفسدون في الأرض فسينطبق عليهم قانون الله ... فهعم بذنوبهم يتعذبون
هنيئا ً للعراق بك ايها السماوي العملاق
يامن ترى الأشياء بنور الله الذي أشرقت لنوره السموات السبع ،حفظك الله وابقاك ربي وهو رب العرش العظيم