مدينة وذكريات
كان والدي بجانبي وأنا أسير شوارع المدينة التى ولدت فيها وعشت فيها أجمل سنوات عمري ودرست حتى الصف الثانى ثانوى فيها،،وأنا الآن بعيدا عنها اربعة عشر عاما بعدما أصر أبى الانتقال منها عقب زيارة لجدى المريض والذى كان يقطن مدينة تبعد عن مدينة طفولتى ستمئائة وستون كيلو متر وهى أيضا مدينة ساحلية الا أنها أصغر . مثل مدينة طفولتى التى سكنت داخل قلوبنا ،،فأأبى عاش شبابه فيه وأجمل أيامه ليقرر في لحظة إن ينتقل ليعيش بجوار والده وأخوته وأبناء عمومته رغم رفض والدتى التى حتى وأن كان أهلها من نفس المدينة لتى يقطن بها جدى.الا أن أبى قرر وأنتهى وهوغالبا لا يعود فى قرارته ،وهو ليس مثلي من لحظة الانتقال لم أتى الا بعد اربعة عشر عاما فهو كان يأتى على فترات متقطه بين الحين والاخر واليوم جئت ووالدى لزيارة قريب لنا مريض وبينما نحن نتجول فى المدينة قال هذه مدينة شبابى وعمرى الجميل ….وهو جالس بقربى ويذكرنى بشوارع مدينته الساكنة فى عقله وقلبه ….ونحن نعبر الشارع المؤدى إلى شاطئ البحر. اقتربنا من الميناء البحرى وكان مكان عمل والدى السابق..قال هنا كنت مشرفا معروفا ومحبوبا من الجميع..أه ياولدى لقد قضيت أجمل الاوقات داخل هذا الميناء وكيف كنت أتعامل مع السفن والبضائع والعمال هنا كان لكل شئ قيمة كان الجد والالتزام ….فلتركن السيارة هنا لانى سوف ادخل وأسال عن رفاق الدرب وأين صاروا وأن أرى ماذا حل بأجمل ميناء بحري..؟؟
قلت ولكن سوف نتأخر فأبن عمك ينتظرنا على الغداء ولا تنسى أننا سوف نعود اليوم الىالاهل وأمامنا طريق ..!فقال أعلم ولكن ربما لا يمهلنى العمر لئن أزورها مرة أخرى لن أتأخر يا صلاح وقد أجد أحد من اصدقائى..وضحك * هيا هيا اركن سيارتك بنى…كان موقف السيارات مزدحم بالسيارات وبصعوبة وجدت مكان رأى أبى المكان الشاغر اولا فقال صلاح هنا هنا اركنها هنا وترجل من السيارة قائلا لن أتأخر عليك ..بقيت فى السيارة منتظرا وأتامل المبانى والبشر الذين يمرون أمامي تأخر أبى !!!شاهدت مقهى صغير كان قريبا من الكورتيش المحاذى للميناء فقصدته وأخذت منه قهوة سريعة وعدت إلى السيارة فالجو كان غائما مع زخات طفيفة لحبات مطر.
وبعد انتظار وأنا منهمك فى قراءة بعض الرسائل التى وصلتنى على جهازى المحمول شعرت بان باب السيارة يقتح أنه أبى أخيرا نظرت إليه ولكني شعرت بأن شي يضايقه قدت السيارة بعيدا عن الميناء لالتفت لأرى عينان أبى دامعتان صمت قليلا سألت أبى ماذا هناك؟؟؟ قال لى لم أجد أحد أعرفه من الرفاق الا أحد ضباط الجمارك الذين كانوا معنا والذى دعانى لمكتبه وجلسنا وتحدثنا عن تلك الايام الجميلة واحتسينا القهوة التفت الىّأسف بنى فقد تأخرت عليك فقد حدثنىعندما سألته عن الاصدقاء والعاملون الذين كانوا معنا فاجاب بتنهيده طويله ..والله يا عم على منهم من تقاعدوا ولكن اغلبهم رحلوا عن هذه الدنيا واخرهم صديقى ابو فتحى الذى توفى منذ أيام وهاأنا في مدينتي بالصدفة اعلم وأصر والدى على الذهاب لبيت ابوفتحى ليقدم العزاء لابنائه ويعتذر فهو لم يعلم الا الان شعرت بحزن والدى العميق وبعد أن وصف أبى لي الطريق لبيت ابو فتحى ولكون مر زمن طويل على أخر مره جاء فيها الى مدينة عمره الجميل.قلت مازحا محاولا تلطيف الجو لوالدى سوف أرى يأبى أن كانت ذاكرتك لهذه المدينة ولشوارعها مازالت كما هى ….ضحك أبى وقال سترأي يا صلاح وبدأ أبى يحدثني بروح شاعر عاشق عن كل مبنى نمر عليه وعن كل شارع وعن كل زنقة أنت تعلم يا صلاح باني عشت أجمل سنين عمرى فى هذه المدينة وفى هذه الشوارع أحب لفحة العتق فى مبانيها الجميلة ومقاهيها وأسواقها الشعبية أحب حدائقها الجميلة فكثيرا ما قصدتها وجلست فيها باحثا عن الهدوء والسكيبة وهربا من الضجيج ووتيرة الحياة الراكضة أحببت فيها أشجارها العملاقة وورودها المتنوعة المتناغمه وأجملها الورد البلدى أه من الورد البلدى الذى يفوح حبا وخجلا مدينتى مثله تفوح بعطر الحب بين ناسها …..احب بيوتها الساكنه بحب وصرخات الاطفال المتعالية فيها وبين اصوات امهات ترعى وتسهر وتهدئ من روعهم باغنية قبل النوم ((ننا هو نناهو….)) انى أحب مساجدها العتيقة وصوت القرآن مرتلا فيها ماذنها جميلة بديعة بطراز نقلنه الى الاندلس …….
أحسست بان أبى هذه اللحظه شاعر المدينة والترحال ……وعاود يقول أترى هذا المطعم ياصلاح أنه افضل من يقدم لك الواجبات الليبيه الشعبيه كنت أنا وصديقى أبوفتحى نأتى الى هنا فى اوقات الغداء رغم بعد المطعم عن مقر عملنا يرحمه الله ويسكنه فسيح جناته قال أبى ياسبحان بعد زياراتى المتقطعة والتىأخرها قبل سنة. فعلا هذه المرة غبت كثير عنها والله الدنيا مشاغل وتلاهى ….!! لكى أجد مدينتى رغم ما جد فيها من أعمار وساحات وأسواق ومحال تجاريه لازالت كما هى بداخلى وتختزن ذاكرتى حياتها القديمه.
أحب هذه المدينه ياصلاح فهى وأن زادت اتساعا وكثرت فيها الزحمه تبقى مدينتى التى احب دائمه الجمال بكل مافيها انها شئ يشبه الحنين يخبو بداخلى لكنه لايموت وهى صوت حقيقى لا يموت هى صوت على الشعلاليه يصدح باحلى الاشعار الشعبية يأتى من بعيد وتسمعه فيحيى فيك الذكريات بلحن ليبى جميل وما أروع اغانى محمد صدقى ومحمد مختار وشادى الجبل وغيرهم لا تسعفنى الذاكرة بهم الآن فهذه مدينة اللحن الجميل والشعر الجميل والصوت الجميل لا تستغرب ياولدى لقول ذلك فهذه حقيقه كلهم ابناء هذه المدينة حتى وأن لم يكونوا منها فى الاصل وسكنوا فيها فسكنت فى قلوبهم بنغازى ياصلاح مدينة شامخة وتزخر بعملاقة الشعر والادب والثقافة فى بلدى انها ملحمة من الحب والعطاء والاجتهاد والمثابرة بأبنائها فهي موطن من يقصده فتعطيه الامان والطمئانينه الذى ينشد.
وانا هائم بكل كلمات الحب التى رسمها أبى أمامي بروعة الفنان الشاعر والقلب الصادق بقيمة إنسانية نحتاجها نحن شباب اليوم ولمسة الوفاء بكلماته واذا به يقول لى هاهو الشارع والبيت هناك هاه مار أيك في ذاكرة أبيك؟؟؟ … قلت له أنها حديد..اقتربنا من البيت ليرأى أبى أبن أبو فتحي لينزل أبى من السيارة بعد ما أوقفتها بالقرب من بيت المرحوم وأترجل أنا أيضا من السيارة وأقدم أنا ووالدي تعازينا لشاب ويدعونا لدخول الى البيت وأرى أبى وهو يحدث أبناء أبو فتحي عقب دخولنا وجلوسنا معهم بان كلماته كانت رحلة وطن باختصار بكل مافيه بداية من الولادة وحتى الرحيل .
بقلم / سالمين القذافى