عندما يحلم البؤساء
وقف متنهدا ً و جداول التعب تنساب فوق جبهته السمراء, رفع رأسه و حدق في الأفق ليعدل وضع عنق اعتاد على الانكسار, بغتة ً وقع نظره على زجاج السيارة اللامع ليعكس على عينيه وجها ً يعلوه لون الشؤم و المذلة‘ انتابه شعور غريب خلق في مقلتيه بريقا ً من الأسى و الحسرة
إنه وقت خروج الطلاب من المدارس, بدأت تلك الصورة الكئيبة الباهتة تعيد رسم معالمها في ذهنه لتزيد مرارة الأوجاع المتراكمة فوق حطام أحلامه, إنه يرى بأم عينيه توق الصبيان إلى أن يصبحو رجالا ً و يذكر في خاطره ذلك اليوم الذي فتحت فيه أبواب المدرسة أمامه , دخل هناك بملابسه الرثة التي تفوح منها رائحة الفقر,شعر بالألوان المبهجة الجديدة تملأ المكان حوله ,و لكنه تغاضى ؛ لأنه كان يعلم أن اليوم الذي سيرتدي فيه هذه الثياب لم يأت بعد, و لكنه كان على يقين بأن هذا اليوم سيأتي ؛ سيحمل حقيبة جديدة تحوي كتبا ً و دفاتر و أقلاما ً و مساطر, يلوح بها لأمه حين يعود من مشوار الكد و العناء , و هي تنتظره على شرفة المنزل, لكن براثن البؤس انتزعته من ذلك الحلم الجميل, وحفته بكابوس ٍ لا يستفيق منه إلا حين يرقد تحت لحده, تذكر أن منزله ليس له شرفة ,و أن والده مقعد,و والدته تذهب للعمل في منازل الناس لتجلب لقمة العيش, لن يشتري حقيبة, و لن يرتدي ملابس جديدة, ولن........,و لن ........, و لا بأس بذلك عنده..
ثم تلاشت الصورة الأولى لتحل محلها صورة داكنة جديدة, عادت به إلى ذلك اليوم الذي رجع فيه إلى المنزل و جلس إلى جانب أمه قائلا ً: أماه.. لماذا لا يكون لنا بيتٌ كبير و سيارة جميلة؟
_: لأننا لا نملك من النقود ما نشتري به ذلك .
_: و لماذا لا نملك النقود؟
_: لأننا فقراء
_: ولماذا نحن فقراء؟
_: لأن الله قسم الرزق بين عباده و شاء لنا بأن نكون على ما نحن عليه, و لا اعتراض على حكم الله.
_: أماه.. أتعلمين؟.. حين أكبر و أصبح مهندسا ً سوف أشتري لنا بيتا ً كبيراًو أجمل سيارة في العالم.
_:لن تصبح مهندسا ً, أنت لن تعود إلى المدرسة بعد اليوم, منذ هذا اليوم أنت الرجل في هذا المنزل, سوف تعمل من أجل أن تعيش؛ قالتها و هي تحبس خلف كلامها نهرا ً من الدموع..
و هذا ما صنعته الرجولة بالرجال, حيث هو الآن يقف أمام أجمل سيارة في العالم لينظف زجاجها و يصلح ما أتلفه طيش مستخدميها؛اولئك الطائشون ذوو السواعد البيضاء الحريرية التي لا تحتمل الاتساخ ,تلك الأيدي التي خلقت لتزدان بالفضة و البلاتين و الماس, كان يطمح إلى أن يملك العالم ليمتع البؤساء بحق حرمو منه منذ زمن بعيد؛ لكنه علم أن مستواه لن يصل إلى ذلك الأوج و قد رماه قدره في الحضيض, و لوّث يديه باللون المشؤوم اللزج,
لماذا؟؟؟؟!!!!.....
لأن ضميره أبعد تلك اليد عن أموال الغير في زمن تفشى فيه بيع الضمير للحصول على المال, فراح يتأرجح بين الخشية و الندم على شباب أفناه في الشقاء للحصول على قوت يومه, و قد كانت الأموال تجري أمامه لكنها ليست ملكا ً له , و أي أسى ً ينتابه حين يرى أطفال الأثرياء ينالون أضعاف ما ينال .. و هو رجل ألقت الحياة على كاهليه هم أسرة ٍ و عيال. ما قي إلا بضع دقائق جعلته يشعر بأن أحلامه التي شيدها غدت مداسا ً للأقدام المارة على قارعة الطريق, أحس بغصة في حلقه و اقترب كثيرا ً من البكاء , حتى شعر أن أحدا ً ما يربت على كتفه, أدار وجهه فإذا بطفل أنيق الهيئة و الملبس يرتدي ثيابا ً مدرسية ً جديدة, و حقيبة ملونة,يقول له: هيا يا والدي, لا بد و أن أمي تنتظرنا الآن على شرفة المنزل, فلنذهب إليها . ارتسمت على محياه الأسود علامات التأثر و الرجاء و فأخرج من جوفه قهقهة ً غريبة ممتزجة ببعض العبرات , ضحك , ضحك , و ضحك , حتى أضحك الطفل, و نسي حطام أحلامه الملقاة على قارعة الطريق...
2005