حمائم ورقية للفرحتهادت السيارة صعودا نحو الشوارع العتيقة ، فانعكس بريق القبة المذهبة في عينيه دفأ غريبا ووهجا أضاء له ما كان معتما طيلة سني عمره القليلة.
صدرت عنه تنهيدة عميقة مسموعة . هذه هي القدس .
تسللت إلى أنفه روائح غير مألوفة . لن يقول عنها إنها منعشة أو جميلة ، ولن يقول إنها لا تشبه روائح المخيم . هي غير هذا كله . حروف الأبجدية كلها لا تستطيع لها وصفا .ربما هي روائح المدن ! لالا ، إنها روائح القدس خدّرت حيْرته وربتت على قلبه وهبت على روحه برداً وسلاما .
تداعت حياته الغضة أمامه شريطا حافلا من الذكريات ، منها ما خبرها بنفسه ، ومنها ما رواها له المخيم ، منذ ولادته ، ثم ترعرعه فيه نبتة برية لم ترأف بها أكف أب ، ولم يحضنها قلب أم . ومنذ تلقفته الأثداء ترضعه حليب اليتم ، وتناولته الأذرع تمنحه بعض حنان مفقود ، إلى المدرسة الداخلية الخاصة بأبناء الشهداء حيث تخرج فيها طالبا متميزا ينبىء عن عبقرية في طور التهيئة ، وإلى صباح هذا اليوم عندما أبلغه المدير بأنه قد خُصّ بمنحة دولية لإتمام دراسته العليا في الخارج.
_ اسمع يا بني . سيكون لك شأن . ستسافر وتتعلم وتنسى كل ما مررت به هنا .
رفع حاجبيه دهشة وهو يقول : ولكني أحب هذا المكان ، ولا أود مغادرته !
نظر المدير في عينيه نظرة غريبة ، ثم قال بلهجة حازمة : أوراقك ها هي ، جاهزة . وتصريح زيارتك للقدس جاهز . إليك به.
كان قد جاء من أخبره منذ مدة أن له عمة تعيش في القدس فقفز قلبه ونطفت روحه لدى سماع الخبر .
تجمعت الروائح في صدره ، واحتشدت الأصوات في سمعه ، في خليط شهي الوقع .
فتح عينيه على وسعهما عندما توقفت السيارة . وخفق قلبه بعنف عندما أخبره السائق أنهما وصلا للعنوان المقصود.
قفز خارجا ً من السيارة وهو يتأمل السفح الممتد أمام ناظريه لوحة فسيفسائية مرصعة بالبيوت والخضرة .جالت عيناه بعشق غريزي ، وكانت تتوقف كل لحظة أمام نافذة جميلة أو شرفة عتيقة تدخل النسمات عبرها وتخرج منها زفرات محملة بحزن مقيم .
ها هي البيوت المعتقة بروائح العز والفخار ترنو إليه وتفصح عن مكنوناتها ، وتفتح قلبها الذي نقشته أنامل مبدعين كانوا يوما ًهنا ، ولا يزال أحفادهم هنا لكن محرومين من استئناف مسيرة الجمال الذي يسكن حواسهم.
نظر بإمعان إلى شرفة من هذه الشرفات فرأى جذع امرأة كأنها ملاك أبيض يرفرف من بعيد ، وسمع صوت زغرودة تتعالى مع الصدى حتى بلغت أعلى الذرى ، فتحركت لها أوراق الزيتون جذلى ، تهفو لفرح مجهول .
صعد السلالم الحجرية الصقيلة وهو يتأملها واحدة واحدة ، يود لو يقبلها ، إلا أن بعض وجوه حمراء غريبة الملامح كانت ترمقه بشك وارتياب جعلته يكتفي باغتراف المكان بعينيه وصبه في القلب في دفقة واحدة.
أسرع إلى الباب الذي عرفه بحَدْسه ، ونظر إلى الاسم المكتوب على اللافتة النحاسية الصغيرة المثبتة على الباب الأخضر بلون السرو . أمسك يد الباب النحاسية وقرع الباب بها ، ثم اقترب بوجهه منها يقبل اسم عائلته المنقوش أمامه ، وعلى وجيب قلبه وهو يستذكر أسماء أجداده وأعمامه ويتخيل بصمات أبيه طفلاً طالما قرع الباب نفسه باليد النحاسية الجميلة نفسها .
برهة وفتح الباب ، واحتواه الصدر الحنون
_ يا فرحتي يا بني . يا فرحتي
انهمرت الدموع سخينة ، واختلطت معا
_ عمتي . عمتي . عمتي !!
أحس برغبة ملحة في أن يكرر اللفظ حتى يعيَ أن هناك على قيد الحياة من يسري في شرايينه دم من دمه هو .
انطلق خارجاً من صدرها وجعل يتفقد المكان ، السقف المرتفع ، والغرف الفسيحة ، والأثاث الخشبي العتيق المشبع برائحة السنديان ، والعيون الغريبة التي تخترق الجدران غير راضية بوجود هذا الغصن من هذه الشجرة التي آلت للسقوط .
_ اجلسي عمتي . سأذهب لأشرب من ماء القدس . وتوجه للمطبخ وفتح صنبور المياه فتحة كاملة فاندفع الماء المبارك متدفقا في الحوض . خفض رأسه ليشرب من الماء بفمه عندما تراءى له خيال طويل يتدلى من السدة قرب السقف ، باتجاه الماء . توقف ، ونظر فتسمرت عيناه وبقي فمه مفتوحاً عندما رأى عينا ً تنظر إليه بدعة لا تتناسب مع المشهد . توقفت أنفاسه ، وغص بريقه ، وانعقد لسانه وشلت حركته ، فقط صوت عمته يقترب متسائلا : ما بك لا تجيب ؟
ثم وهي تقف إلى جانبه تلفه بذراعها : لا تخف يا بني ! هي تسكن هنا من قبل أن يولد جدك ، تنزل لتشرب كلما سمعت صوت الماء . ثم بابتسامة لا مثيل لها : هي بنت القدس تسليني في وحدتي ، لم تتركني ، ولم تغادر هذا البيت ، تشرب ماءه وتأكل من بقايا طعامه.
تحركت شفتاه ببطء : بنت القدس . في الوقت الذي بدأ الجسد الممتد المصقول يتلوى صعودا نحو رطوبة مسكنه .
بكى وضحك ، وضحك وبكى وأجهش وقهقه.
مد يده في جيبه وأخرج أوراق المنحة ومزقها نتفا صغيرة وهو يقترب من النافذة التي شهدت للمرة الأولى منذ عقود فرحا ينطلق منها وينتثر في سماء القدس بياضا ً مختلطا مع حمائم الحرم .
_________________
حنان الأغا
21 -7 -2007
عمّان