حياة من أسفل الطاولةعندما ألقت إليه بابتسامتها ، أيقن أن هذه الضربات المتفرقة تأتيه عن عمد ، تجاهلها بإدارة بصره نحو أوراقه المستلقية على طاولة الإجتماعات ، قلص قدمه بعد أن تلقى ضربة أخرى من مقدمة حذائها المدبب ، افتعل التمعن بأرقامه المشبعة بالربح الوفير ، كانت دفة المفاوضات تتأرجح بين يديه ، يحرك بها المجلس كيفما شاءت له رياحه الصيفية ، كقبطان ماهر يتقن اللعب بتلابيب المناورات التجارية ، كانت نظرات المنافسين تنزح من بحر العجائب دفقات الإعجاب نحوه ، كلما ابتسم بانت عليهم وسامته ، وحينما يقطب أهابهم وقاره ، دائرة الحديث تنغلق عنده بالتودد الدائم ، لكن في كل مرة كان ذكائه المعهود يفرض عليهم سلطاته ، لا يخطىء ، لا تترجج أنفاسه ، تسير كلماته كما الخط المستقيم – أنت مكسب كبير لشركتك – كان يبدى شكره المتوازن كلما كركر أحدهم بهذه الجملة ، ثم يواصل سريعاً الإمساك بالدفة ، حنكة التجار تحاول أن تتخلله ، تبحث لنفسها عن ثقب أسود تسطيع أن تنفذ منه إليه ، لكنه مازال صامداً ...
حوار الضربات يكرر نفسه من أسفل الطاولة ، حدق في وجهها الغض المتمايل مع الأضواء الساطعة ، هواجس الألوان تنعجن بأرقامه الصارمة ... ابتسم ...
أصوات تأتيه من بين أكوام الزمن ... إنها عصا أبي تحاصرني بكل مكان ، مازلتُ أبحثُ بين أشياء المنزل عن مخبأ يؤويني ... هنا تحت الكرسي ؟؟ ، لا لا .. سبق وعثر على هناك ، خلف باب غرفتي ؟؟ ، لالا .. سبق ودق عظامي هناك ، نعم هي الطاولة ...الطااااولة ،هرعت أسفل الطاولة بجسدي الصغير (أخرج يا جبان ، تعال هنا أيها الفأر) فشلت محاولات أبي من الوصول إليّ ... ابتسمَ ..
****** ***** *****- أين ذهبت هذه الملعونة هذا النهار؟!
-أكيد خبأتها (ماما) من طغياننا الشيطاني.
- أين خبأتها ؟!!
-...............
- ابحث عنها فوق سطح المنزل .
- ................
- وأنتِ ابحثي عنها بالغرف.
-................
- أما أنا فسأبحث عنها بكل مكان.
استاغثت بموائها بعد أن جذبتُ ذيلها بقوة من أسفل الطاولة .. ابتسمَ..
****** ****** ******اليوم سأصعد للقمر ، جهزت كل معداتي وأجهزتي ، تأكدت تماماً من صيانة المركبة الفضائية ، الوقت حان للإنطلاق ، (دن دن دن دجن دجنننننننن ششششششش) ، انطلقت السفينة بنجاح ، أصافح السحب ، النجوم ، السماء الأولى ، الثانية ، الملائكة ، الشمس ، وأخيراً الهبوط على سطح القمر ،أصبحت الدنيا كلها ملكي وحدي ، أستطيع أن أرى كل شىء من هنا ، و اتحكم في كل شىء ، الآن أنا أكبر مما يجب ... لكن ، مَنْ هؤلاء القادمون من بعيد ؟ معقول أنهم كائنات الفضاء ، لابد وأن أهبط ، أختبىء ، أن أهرب ، لكن أين ؟ لا يوجد أي شىء أستتر خلفه ، الفضاء شاسع ، الفراغ يحاصرني ، يقتربون .. إنهم قادمون ... سيقبضون علىّ بكل تأكيد ، أريد الهبوط إلى الأرض ، بدت ملامحهم الغريبة ، أشكالهم مخيفة ، أعينهم من زجاج أحمر ، أنوفهم معقوفة، أرجلهم ، أياديهم ... لا تقترب مني أيها الأحمق ..
- من أنت أيها الغازي الصغير ؟
- أ أنا .... ؟
سحبتني يد أمي من أسفل الطاولة لتناول العشاء .... ابتسمَ ...
****** ****** ******- زلزاااااااااال .
كان أبي يلملمنا عندما انطلقت هذه الكلمة ، مع رقصات الأرض من تحت أقدامنا ، كانت كل الأشياء من حولنا تهتز ... تتساقط ، الثريا ، (التابلوهات ) ، المزهريات ، الحوائط تتعرى ... تتمزق ، صرخات أمي ، نداءات أبي ، جدي ، جدتي ، هيا بسرعة .. اخرجوا كلكم ( يا رب يا ستار )، انطفأت الأنوار ، أختى وفاء ، أين أختي وفاء ، إنهامازالت نائمة .. ماما ، بابا ...
السقوط يدلي بصوته من الشارع ، أعتقد أن العمارة التي أمامنا انهارت بالكامل ، يضيق الخناق ، الغبار ... لا استطيع التنفس ، أين الباب ؟؟؟ لقد سقطت حوائط الصالة الرئيسية ، انغلق المخرج ، لقد علقنا ، لن نستطيع الخروج – أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله –صوت أبي يصارع صوت الإنهيار : الطاولة ، هيا تجمعوا أسفل الطاولة ، سقط كل شىء ، صمت كل شىء ، إلا صوت أنفاسنا اللاهثة ، وتمتمات جدى بآيات قرآنية .... تنهدَ..
****** ****** ******تلقى ضربة جديدة وسط اللغط القادم كهجمات النحل الطنان، نفض عن رأسه الغبار ، وعاد لغرفة القيادة ، أحكم قبضته على الدفة ، ابتسمت له بعد أن اطمأنت بأنه يبادلها الإبتسامات ، نظم أنفاسه ، تناول جرعة مياه من الكوب أمامه ، هندم قسورة قميصه ، نظر إليهم بهدوءه ، أعلن لهم إصرار شركته على موقفها التجارى تجاه شركاتهم ، بينما يستعد للإنصراف من بين براثن الصمت المحلق فوق رؤوسهم ، شعر بيدها تمتد إليه من أسفل الطاولة بورقة صغيرة عن يمينه ، ويد أخرى تلوح له (بشيك) مالي عن يساره......محمد سامي البوهي