ذبْح القِطة
---------
دكتور/ محمد فؤاد منصور
الأسكندرية
----------
<font color="Red"><font size="4">m_m...</font></font>
---------------------------
لم يكن حمودة إستثناءً من القاعدة، لكن هكذا شاء قدره ، أن يكون ضحية للتعود والقواعد الثابتة والتى تمضى بها حياتنا دون أن تستثنى أحداً، المشكلة أن أهل قريتنا أنفسهم لم يكونوا يحسبون لهذه الأمور حساباً ولايقدّرون ماتنطوى عليه من خطورة ولاأظنهم سيتوقفون بعد ماحدث عما أعتادوه من سلوك يعتبرونه من مقتضيات الصداقة وواجباتها ، وهكذا تمضى الحياة فى قريتنا منذ قديم تحكمها عادات ثابتة حتى لو سقط من بيننا ضحايا لها فهذه هى الأصول وذلك هو مانشأنا عليه، لذلك لم يكن غريباً أن يتطوع سالم أبو حسين فيقسم بأغلظ الأيمان قبل غيره أن يكون حمودة ضيفه فى ليلة الحنّة وهى الليلة التى تسبق دخوله إلى عش الزوجية ليقضى بين أحبابه وأصدقائه من شباب القرية آخر ليلة فى حياة العزوبية يتسامرون ويتضاحكون وتكون الفرصة مناسبة لخلع برقع الحياء والتحدث بلا خجل فالمسألة غاية فى الأهمية ولاحياء فى الدين وإثبات الرجولة على كافة الأصعدة فى أول ليلة يقتضى أن يدلى كل صديق بنصائحه المخلصة حتى ولولم تكن له شخصياً أى خبرات سابقة فى هذا الميدان.
هكذا وجد حمودة نفسه محاطاً بشلة من أصدقائه المقربين ومن الغد سيقضى نصف يومه الأول فى بيت خاله محاطاً بمحبيه للمرة الأخيرة ثم يستحم ويتزين قبل ان يخرج به الموكب فيزفه إلى خديجة الفتاة التى أختارها قلبه منذ كانا طفلين يسرحان بالبهائم من الفجر وحتى الغروب ، يعرفها كما يعرف نفسه وربما أكثر وكان رجلها منذ كان طفلاً يساعدها فى ربط الجاموسة أو حش البرسيم أو ركوب الجحش والذهاب به كالرهوان إلى الدار فيأتى بمايكفى إثنين لطعام الغذاء ، يشعر أنها جزء من ذاته فلم يتصور أن تكون لغيره يوماً.
الأصدقاء من جانبهم يرون رأياً آخر فالبنت ستصبح زوجته وحلاله ومالم يثبت رجولته منذ البدء سيصبح ولاشك "شرابة خرج" وستركبه وتدلدل رجليها كما يشاع وآية ذلك أن المودة والألفة بينهما معقودة من قديم فإذا صلح هذا بين جيران تقاربت حقولهما وأختلطت بهائمهما وجمعت بينهما أيام الطفولة والصبا فالأمر الآن مختلف أيما إختلاف حيث ستصبح زوجته فلايناديها بخديجة كما تعود وإنما سيصيح بها منتهراً يا"بنت" كلما أراد ان يصدر أمراً أو يطلب طلباً.
ولأن مقتضيات الصداقة تلزم جميع الأصدقاء أن يكونوا عوناً له على ماينتظره من مهام فقد أسرّ سالم أبو حسين فى أذن حمودة بأنه يدّخر للغد قطعة من الحشيش الغبارة سيقسمها على عدة لفافات من السجائر وسيبتعد عن دسها فى النارجيلة حتى لايشاركه فيها احد وأضاف إن هذه هى هديته التى سيدعو له بعدها حين يصول ويجول فى الفراش كالثور الهائج فلايبقى و لايذر وعبثاً حاول حمودة أن يشرح لسالم أنه لم يتعود هذه الأمور وأنه يفضّل أن يكون طبيعياً كما خلقه الله فلم ينل من بقية الأصدقاء إلا صيحات الأستنكارمصحوبة بالغمز واللمز مع ضحكات ملأت جنبات الغرفة التى ألتفوا فيها حوله ، أتهموه بالغفلة وقلة الخبرة وأن "اللى مايعرفش يقول عدس" وأن عليه أن يمتثل لما يقولون دون مناقشة وإلا صار أضحوكة شباب القرية ومحل سخرية خديجة ذاتها، تطوع محمد عمر أبن خاله الذى يعمل موظفاً بالقاهرة وحضر خصيصاً ليحضر ليلة الزفاف بالتأكيد على أن مايقوله الأصدقاء صحيح مائة بالمائة وأنه من جانبه أحضر له" لتر كونياك" من النوع المفتخرسيفعل معه الأفاعيل وعليه قبل بدء مراسم الزفاف مباشرة أن يتجرع عدة كؤوس بعدها تنتقل الزجاجة ضمن صينية العشاء التى ستدخل قبله إلى غرفة النوم وأن عليه أن يشارك عروسه ماتبقى منها أثناء تناولهما للعشاء منفردين داخل الغرفة وأتفق الجميع على أن الغبارة والكونياك و"دكر البط" المعد للعشاء من شأنها جميعاً أن تمنحه قوة دفع ثلاثية لاتخيب .
فريق ثانٍ من الأصدقاء أهتم بجانب رسم حدود العلاقة التى ستجمعه بخديجة من بداية دخوله للغرفة التى ستسبقه إليها محاطة بكوكبة من النساء ، قالوا إن البداية على درجة عالية من الأهمية وإن الإنطباعات الأولى تدوم وأن عليه أن يفتعل أى فرصة قبل تناول العشاء وبدء التقارب الفعلى فيشخط فيها شخطتين أو ثلاثة ولابأس من صفعة قوية تلقى بها أرضاً بأى سبب ، عندها تلين فى يده وتنصهر كقطعة شمع ألقيت فى فرن متأجج ويصبح سيّد الغرفة بلامنازع.
لم ينم حمودة ليلته تلك ،إنها الليلة الأخيرة له فى حياة العزوبية ومن الغد ستصبح خديجة ملكاً خالصاً له ، راجع كلمات الأصدقاء حين آوى إلى فراشه ،هل حقاً تطاوعه يده على أن تمتد إلى خديجة بسوء، الجميلة الرقيقة التى أحبها منذ زمن بعيد والتى كانت من جانبها تتفانى فى رعايته ومساعدته أثناء الرى أو فى مواسم الحصاد حين يكون عمله مضاعفاً والمطلوب منه أكثر مما يسمح به بدنه النحيف وعضلاته الضامرة والتى كانت تنسلّ من بين إخوتها متعللة بأى عذر حين تطول غيبته داخل الحقل فلا تأكل أو تشرب حتى تطمئن إلى عودته سالماً فتخف إليه حاملة إبريق الماء لتصب عليه مايزيل عنه الطين والأوحال،هل حقاً عليه أن يتعلل بأى عذر ليوجه لها لكمة تدميها أو صفعة تطيح بها إلى الأرض حتى ينال منها مأربه فى يسر وإستمتاع ؟ إن عقله لايطاوعه ويده التى طالما حنت عليها وأمتدت لتساعدها على عبور القناة حين تمتلئ عن آخرها بالماء متخذة من فخذه الموطئة لها جسراً للعبور ، كيف لهذه اليد أن تصفع أو تلكم وهى التى طالما حنت وهدهدت؟ ومع ذلك فيبدو أنه لابد مما ليس منه بد ذلك هو رأى الناس جميعاً وهم من ذوى الخبرة العريضة فى ميدان لايعلم عنه شيئاً حتى أنهم طمأنوه إلى أنها هى ذاتها تنتظر منه هذه الخشونة التى لم تتعود عليها منه تأكيداً لرجولته ورمزاً لإحكام سيطرته وأنها بعد صفعة أو صفعتين ستكون كالخاتم فى الأصبع وستعطيه من ذاتها ماتقرّ به عينه.
***
مضى كل شئ بعد ذلك كما رسم الأصدقاء تماماً ، حمل سالم إليه مجموعة من اللفافات المحشوة بالتبغ والحشيش وأقسم بالطلاق ثلاثاً إنها معدة له بيد خبيرة وعقل أريب وأنها ستدخله الجنة من أوسع أبوابها، وجاء محمد عمر بزجاجة الكونياك التى حملها معه من القاهرة خصيصاً والتى _على حد قوله_ ستدفع إلى جوفه بركان من الحمم وتحوّله إلى ماكينة تنافس فى قوتها وابور الطحين الذى يجرش أعتى الحبوب.
أبوه نفسه أشترك فى الإعداد لهذه المعركة الحربية حين نبهه فى لهجة ذات مغزى إنه أوصى إلى جانب دكر البط بعدة أزواج من الحمام المحشوبالفريك وجوزة الطيب وأكّد عليه ضرورة أن يبدأ بها ليلته وطمأنه إلى أنه شخصياً سيشرف على إعداد صينية العشاء .
***
حين بدأت مراسم الزفاف كان حمودة غائباً عن الوعى تماماً يرى الناس من حوله فى صورة ضبابية باهتة فقد قام بتدخين أكثر من عشر لفافات من التبغ وحده وهو الذى لم يذق طعم التدخين يوماً قدّر فى نفسه أن ليلة واحدة يخرج فيها عن مألوفه لن تضرّ شيئاً وأنه من الغد لن يقرب التدخين مرة ثانية، أصابته فى البداية كحة عنيفة وأحتقن وجهه بشدة حتى ظنّ أنه يلفظ أنفاسه لكن سالم ضحك وربت على فخذه وهو يقول:
- تشجع يابطل فالليلة ليلتك وكل شئ صعب فى أوله.
على حين علّق محمد عمر وهو يضحك بصوت عال
- لا .. ومازال هناك الكونياك الذى ستشرب منه حتى تنسى أسمك ذاته.
ماالذى حدث بعد ذلك؟ لاأحد يعلم على وجه اليقين فقد مشى حمودة بين صديقين مترنحاً يرسم إبتسامة لامعالم لها على وجه شديد الإصفرار على حين تجاوبت فى الفضاء الرحيب أصوات الزغاريد المنطلقة من جميع دور القرية التى مرّ بها الموكب وحين وصل إلى الغرفة التى ينتهى عندها حفل الزفاف غادره الأصدقاء على باب الغرفة على حين لحقت به موجات الزغاريد التى أنطلقت كاللحن الختامى من أفواه النساء اللائى كنّ مع خديجة حين دخل إلى الغرفة محاولاً لم شتات ذهنه ليرتب خطواته كما نصحه الأصدقاء، بدت له خديجة فى فستانها الأبيض وإبتسامتها العريضة كملاك يقف فى غلالة من الضباب ، مالبثت أن غامت إبتسامتها حين ترنح حمودة وتلقفته بين يديها قبل أن يرتطم جسده بالأرض ، صرخت بأعلى وأقوى ماتستطيع مستنجدة بالضيوف الذين كانوا يتهيأون لمغادرة المكان وسرعان ماتجمع الناس من كل صوب وسرت همهمات وعلا اللغط وجاء الطبيب على عجل ، لكنه سرعان ماأطرق فى أسى وهمس وسط ذهول جميع الحاضرين
- تأخر الوقت كثيراً ، البقية فى حياتكم. -------------
دكتور محمد فؤاد منصور
الأسكندرية