..هل الشعر خمر ،وهل الكلمة أولى محطات الضلال ،وهل السكر أعلى درجات الإبداع .أيها القلب الذي لم يكد يتبرعم حتى وجد نفسه شاعرا ،ولم يكد يشعر حتى أدرك أنه أحد مئات بل آلاف الضحايا.
هل تذكر آخر دقيقة قلبت نظامك الحياتيّ ،فأصبح الليل أبيضا ،والنهار أجمل لحظات السبات ،هل تذكر أوّل دفقة دمويّة نقلت إليك ذاك الوباء ؟
هل أنت أمير عربيّ يفرغ هواجسه في أحقر زوايا القصر ،أم أنت صعلوك مدنيّ لا يزال يحن إلى خشونة الصحراء ؟
أيها القلب الذي لم يحمل في حياته جواز سفر ولم يتلطّخ بحبر الهوية ولم يؤمن بقدسيّة الحدود ،أراك بعد هذا الزمن ،تحمل كل أوراق الإنشقاق وتروّج لنوع خطير من أوراق الشتات.
أنت كالسحر تـَعلـّمَ أن يتلاعب بأبصار الناس بخيالاته العجيبة ،ولكنه لم يتعلم يوما أن يتلاعب بقلوبهم مهما طال مكوث مفعوله بينهم .
أيّها القلب كم صبحا خان ضياءك الوديع ؟وكم بحرا حطّم سفن جمالك البرّاق ،وكم قافية امتصت عبيرك حتى آخر رشفة ؟
هل الحب إلاّ كلمة من معانيها الذبح ،ومن نقيضها التوضأ بماء الذل والهوان ،هل تعلم ما يُعجبني فيك أيها القلب ،أنك منذ ولدت وأنت ترفع في وجه الحب ناطحة كبرياء ،تتلون كل ثانية بمعاني التعالي و الشموخ.
وأنت يا أيّها السكير ..هل تذكر آخر قطرة سكون تمزقت في كأسك ،وأنت أيها الكأس هل تذكر أول قطرة جنون كــُتبت لها الحياة في شوارع سرابك المتشعبة ،وأنت أيّها الجنون هل تذكر أوّل قصيدة ركبت جواد المتاهة ،وتنقّحت في حضرة الريح .
أيّها السكير ..كم قنّينة تحتفظ بها للذكرى ،وكم بيتا تحتفظ به للنشوة ،وكم غرفة لا تزال مغلقة في فندق قلبك الفاخر بخمس طعنات ؟
إن بعض وجع المشاعر إذا اغتسل بنزيف الكلمات يكتسب بعد الضعف قوة ،وبعد العمى بصيرة ،ويصبح بقدرة البديع والبيان ملكا يتبختر أمام باقي المواجع التي لا تزال في طبقة الشعب .
كم أنت عجيب أيّها الشعر ،تطرق باب الشعور أشعث أغبر ،لتصبح بعد فترة وجيزة رب الأرض و رب القلب و رب الشعور.
قيل إن الحب أعمى يقوده الجنون، وأنا أقول : الشعر بصير يُحوّل كل مجنون إلى أعمى يقوده التمرّد والطيش.
أيها القلب اللعين أما زلت تحرّضني عليّ بكل ما تملكه من سحر ،بكل ما تملكه من سكر ،بكل ما تملكه من شعر؟