قراءة نقدية في التجربة الإبداعية للشاعر " د. جمال مرسي " :
تطور الرؤيا والتشكيل الجمالي في شعر جمال مرسيد. مصطفى عطية جمعة
دراسة في الخطاب الشعري
ملحوظة أولية :
هذه هي الدراسة النقدية التي قمت بإعدادها وتقديمها في ندوة الخميس 16 /8 / 2007 في بورسعيد ، وهي سترسل للنشر لمجلات وصحف أدبية في مصر والخليج العربي إن شاء الله .
* * * *
يعد الشاعر " جمال مرسي " من الأصوات الشعرية التي تسترعي الانتباه ، لاعتبارات عدة ؛ فهو شاعر يمثل حلقة وصل بين أجيال شعرية عدة ، بدءا من شعراء السبعينيات ومرورا بتجربة جيل الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين ؛ كما أنه شاعر يحظى بكثير من التواجد في الساحة الأدبية منذ عدة عقود ، تواجد يمتد من الإقليم ( محافظة كفر الشيخ ) ، مرورا بالعاصمة (القاهرة) إلى بلد العمل والإقامة المستمرة منذ سنوات ( المملكة العربية السعودية) ، حيث ينشط في العمل الثقافي العام ، من خلال حركة دينامية ، لا تعرف السلبية ، ولا تستسلم للتنائي الجغرافي ، فتركن إلى الدعة والكسل ، بحجة أن الإبداع مرتبط بمكان محدد ( الوطن ) . فهو كثير التواصل بين مبدعي إقليمه باختلاف أعمارهم، ومع أبناء جيله في مختلف ربوع مصر ؛ نفس الدور الذي يقوم به في الغربة (الاختيارية ) حيث يتواصل بشكل حميم مع مبدعي العربية السعودية ، في دور مهم من التواصل مع المبدعين العرب ، يدحض به ما هو دارج بين البعض من كون الغربة محرقة للمبدع وعزلة إجبارية له ، وهي مقولة تعبر عن بحث عن عذر أمام النفس يبرر استسلامها لتيار البحث عن المادة . في الوقت ذاته ، الذي استطاع أن يعزز تواجده في الفضاء الإلكتروني ، عبر مساهمات مستمرة في المواقع الأدبية والثقافية ، وتبني الكثير من المواهب ، وهذه صورة أخرى للتواصل والعمل الثقافي العام ، وهذا ما أعطاه حضورا قويا في منتديات النت ، مما جعله أحد الوجوه البارزة في العالم الإلكتروني الفسيح ، الذي صار رافدا مهمًا لتغذية الحياة الأدبية العربية بشكل عام ، والذي دعّم التواصل بين المبدعين العرب، وعمق الكثير من المشترك بينهم ، داخل أقاليم العروبة أو خارجها مع أدباء المهجر .
إن هذه الدراسة تسعى إلى الوقوف على أبرز معالم التجربة الشعرية لجمال مرسي ، من خلال دراسة مظاهر التطور في الرؤيا والتشكيل الجمالي في الخطاب الشعري لديه ح بغية تحديد أبرز ملامحها ، ومدى الثبات والتطور في هذه الملامح . وتنطلق هذه الدراسة من الأعمال الشعرية التي صدرت للشاعر سواء في النشر الورقي أو النشر الإلكتروني ، بعيدا عن الرؤى النقدية والانطباعية التي تقف عند قصيدة ما أو عدة قصائد ، فهذا يتيح رؤية أشمل ، وأكثر اتساعا ورصدا في مستويات الخطاب ، وحسنا فعل الشاعر أن وثق تجربته من خلال حرصه على النشر .
تحولات الرؤيا في الخطاب الشعري :
تدل تجربة جمال مرسي على أنه شاعر ملتزم ، طبقا لمفهوم الالتزام بمعناه العام ، الذي يشمل التمسك بالثوابت الأخلاقية والدينية والوطنية ، والتغني بها . وهذا ما عبّر عنه ديوانه الأول المعنون بـ " غربة " (1)، وواضح أن الديوان صدر في مرحلة عمرية متأخرة نسبيا ، ولكنه يمثل وثيقة مهمة في التطور الإبداعي لشاعرنا ، فهو يعبر عن الحلقة الأولية التي يهرب منها كثير من الشعراء الآن ، حيث يفضلون نشر تجاربهم في التفعيلة أو قصيدة النثر ، ويتناسون في ذلك أن كل عمل أدبي – ضعف أو عظم - يمثل ملمحا من ملامح الإبداع لديهم .
وقد اتبع شاعرنا في ديوانه الشكل العمودي في القصيدة ، ويمثل الديوان تجميعا لأهم القصائد التي تعبر عن المرحلة الأولية في تجربة جمال مرسي . وربما اتسق الشكل العمودي مع طبيعة المضمون المطروح والذي دار في دوائر دلالية متجاورة :
الدائرة الأولى : القضايا الدينية كما في قصائده : " الإسراء والمعراج ، العودة إلى الله ، وليمة رفضت تناولها أعشاب البحر ، لا للوهم ، لا للمخدرات ، يا شباب اليوم .
الدائرة الثانية : قضايا الوطن العربي الكبير كما في قصائده : " انتفاضة الأقصى، صوت من القدس ، فلسطين الحبيبة ، أفراح الجنوب اللبناني ، شاهد على الغدر.
الدائرة الثالثة : صلة الرحم كما في قصائده : يا والدي ، هذا بري بوالدي ، أتلمس وجه أمي ، رد الجميل .
الدائرة الرابعة : الذات الشاعرة وهمومها ، كما في قصائده : عاشق الكنانة ، غرقت قلوعي في بحار هواك ، عيناك ، صراعات نفس ، غربة ، الرزق الحلال.
وقد رتّب الشاعر قصائده في الديوان بدءا من الذاتي وانتهاء بالقومي العربي والديني الإسلامي ، وهو ترتيب يعبر عن طبيعة مفهوم الدائرة الدلالية الذي يحصر النص في دلالة واحدة ( مفهوم الغرض القديم ) ، وجاء الترتيب من الجزء ( الذاتي ) إلى الكل ( العربي والديني ) .
وإذا كان الديوان يمتاز بالخطاب الشعري المباشر ، الذي يتجلى في عناوين القصائد ، وهي عناوين تمثل ملخصا للتجربة ، وبعبارة أخرى : ثمل العنوان الرؤية الشاملة للنص كله ، وهي سمة جمالية ستظل ملازمة لشاعرنا فيما بعد ، مع المزيد من التشكيل فيه .
ونستطيع أن ندرك أن الدوائر الدلالية الأربع المتقدمة تعبر عن ذات شاعرة شديدة الانتماء ، تحمل الكثير من القيم والهموم المشتركة، وهي رؤى تعبر عن ذات شاعرة شديدة المثالية ، تعيش الحلم في أعماقها ، وتواجه الحياة اليومية بالطريقة الاعتيادية ، ولكن تظل المثل سحبا تتمنى اقتناصها . وربما لم يأت عنوان الديوان " غربة " اعتباطيا ، وهو قد حمل في نفس الوقت التصور العام لرؤية الشاعر في الحياة ، حيث يقول :
أمشي على شوكِ القتادِ تقودني قدماي صوب الأحمر الممنوع
أجتاز حــدّ الانهزام وأعتلي مــوج التحدي سابحا بقلوعي
أطوي دياجي حيرتي وتغرّبي وأضيء رغم الانكسار شموعي(2 )
تشير الأبيات السابقة إلى الرؤية المتقدمة ، فالذات الشاعرة تنظر للحياة كلظى مشتعل ، تحاول أن تتعامل بمثالية ، ولكن الواقع دجى ، يدعو للانهزام ، ولكنه سيظل سائرا في خضم الحياة ، معتليا الانكسار ، حاملا شموعه .
كما تدل الأبيات السابقة على ملمح مهم في الحلقة الأولى لشاعرنا ، فهو ثري القاموس اللغوي ، مبدع في تراكيبه ، لديه مقدرة فنية في تكوين الصورة ، جامعا فيها ما بين المادي واللامادي ، فنرى شوك القتاد والأحمر الممنوع ، وحد الانهزام والسباحة في موج التحدي . وهي صور تبدو متأثرة بجماليات القصيدة العمودية ، حيث الصورة المعتمدة على الإضافة ( حد الانهزام ، شوك القتاد ) والنعت ( الأحمر الممنوع ) والترادف ( أمشي ، تقودني قدماي ، حيرتي وتغربي) وفيها الكثير من المباشرة المعنوية ، التي تتسق مع طبيعة التجربة في المرحلة الأولى ، الذي لا يزال الشاعر واقفا فيها عند مفاهيم الشعر العربي العريق ، وهو ما عبّر عنه في مفتتح ديوانه ، حيث يقول :
هو الشــعر يرقى بأحلاميه أحقق فيه مُـنى ذاتـيه
هو البر إن أنت رمت النجاة هو العطر فـاح بأياميه
وأنهل منه سـلاف الحـياة وأقطف أزهاره الزاهيه ( 3 )
فالشعر تجربة وجدانية ذاتية ، يعبر عن رؤى الإنسان البسيط : حلما وعشقا ونسيبا ومدحا هجاء ، وهو تصور أولي بلا شك ، تم تدارجه في التجارب الإبداعية اللاحقة .
* * *
" شرفة القمر " ديوان مشترك لمجموعة من الشعراء العرب ( 4 )، وقد ساهم فيه الشاعر بأربع قصائد وهي : شذور ، لأنك أنت ، في المقهى ، أبهى قصائد شعري. وبالنظر إلى تاريخ صدور الديوان ، نجد أن الشاعر آثر التمهل ، حتى تكون النقلة التالية نوعية في مستواها ، وهذا ما نجده في قصيدتين من القصائد الأربع ، حيث التحول من الشكل العمودي إلى شعر التفعيلة ، وتعميق الرؤية وشمولها لمختلف جنبات الذات التي تعيش عالما شديد التعقيد ، تتعاور فيه القيم مع المباذل، القوة والضعف ، الشيئي ( المادي والمخلوق ) والمعنوي ( الفكري والنفسي )، وهي ما يميز قصائد التفعيلة وتمثل أحد تجليات مفهوم الحداثة الشعرية . وهذا نجده جليا في قصيدة " شذور " حيث يقول في مقطع بعنوان " فراشة " :
حلّقت ...
حول مصباح غرفة نوميَ
مدبرةً ، مقبلةً
كنت أحسبها قد أتت
كي تؤانسني
فإذا بها جاءت ..
لكي تسقط القنبلةْ ( 5 ).
إننا إزاء موقف درامي ، يقترب من بنية القصة القصيرة جدا ، حيث تنشغل الذات الشاعرة بالفراشة المحلقة في فضاء الغربة ، تدبر وتقبل ، يظن أنها جاءت لمؤانسته ، ثم يكتشف أنها حاملة قنبلة . إنها بنية المفارقة ، حيث يتحول الفراش (شيئي ) إلى طائرة حربية مغيرة . وهذا خطاب عالي الشاعرية ، يشي ولا يصف، يلمّح ولا يصرّح ، فقد دلنا على ذات منعزلة تكتوي بالهوان العربي ، وتلوذ بأي جديد في فضائها ، ويأتي الجديد " فراشة " حشرة جميلة الشكل والألوان، تافهة الحجم ، مسالمة ، نفس ما يردده أعداؤنا من قيم السلام والتعايش والحرية ، ثم تتحول الدعوة إلى هجمة ، مثلما تحولت الفراشة إلى طائرة مقاتلة.
في حين جاءت القصيدتان العموديتان : حلقة وسطى بين التجربة السابقة بمعطياتها الجمالية ، وبين قصيدة التقعيلة ، ففي قصيدة " في المقهى " يقول :
في مقعد هادئ في ركن مستترِ نأى بعيدا عن الفوضى عن النظرِ
فهو يرصد ما قبل وصول المحبوبة ، بعدسة حسية بطيئة الزمن ، حركتها مقلة العين السارحة في جنبات المقهى ، ومناجاتها مع النادل ، مسترجعا الأوصاف الحسية للمحبوبة ، فيقول :
شعرٌ تدلى على أكتافها مَرِحًا يزهو بسمرته يزدان بالدررِ
كأنه موجةٌ تجري وتتبـعها أخرى فتهرب للشطآن والجزرِ
والوجه واحة فلٍّ في تأنـقه والخد روضة كرز باسم نضرِ( 6 )
تقف القصيدة عند الوصف الحسي للمرأة ، ولكنه وصف دال على تألق الصورة لدى الشاعر ، فقد تخلص من بنية المضاف إليه والنعت ، وتحول إلى بنية الإسناد في الجملة الخبرية : " شعر تدلى " ، " الوجه واحة " ، " كأنه موجة"، " الخد روضة " ، وجوهر الصورة الخبرية الثبات ، ولكنه ثبات متحرك بفعل إيحاء الألفاظ : تدلى ، موجة ، روضة ، واحة ، إنها أوصاف مسندة تحمل حركية وجمالا وسعة ، فالروضة ليست مكانا جامدا ، وإنما لوحة متحركة باهتزاز الأشجار وطيران الفراشات والأطيار ، كما أن اللفظ المنتقى يحمل كلا لا جزءا ، فالواحة والروضة والموجة ، ذات كلية جمالية ، ثم يلحقها بجماليات تابعة ، فالكرز فاكهة يانعة الحمرة ، وهّجها الشاعر بالبسمة والنضرة ، وهي تتبع الروضة ، لأنها جزء منها .
إذن ، جاءت قصائد هذا الديوان المشترك كقنطرة واضحة في التحول الفني والرؤيوي للشاعر .
* * *
" أصداف البحر ولآلئ الروح " ( 7) التجربة الثالثة في النشر لجمال مرسي . ونطالع فيه الإهداء المعبر عن الانتماء والعرفان إلى : الوالد والوالدة ( القدوة والمثل ) ، وإلى الزوجة ( رفيقة الدرب ومليكة القلب ) ، وإلى محمد الشهاوي ( الشاعر الأستاذ ) . فالشاعر محافظ على دوائره الدلالية المتقدمة في ديوانه الأول، وأشار إلى العروبة والدين بالوالدين ، الحب بالزوجة ، والحداثة الشعرية بمحمد الشهاوي ، أحد أبرز شعراء جيل الستينيات والسبعينيات ، الذين ساهموا بثورة كبرى في بنية النص الشعري ، متجاوزين الرؤى التقليدية الجمالية ، إلى فضاء رحب ، فالنص واحة شاملة لكل ما يملأ الذات المبدعة : سياسي واجتماعي وجمالي وتراثي .
وهذا ما أبانه الشاعر في مطلع الديوان ، حيث يقول في قصيدة " هو الشعر" مقدما تصورا جديدا يخالف التصور التقليدي الذي افتتح به ديوانه غربة :
كسوتُ القوافي من حرير مودتي
وجرّدتُها إلا من الحق والهدى
فكانت لظى في النائباتِ وفي الوغى
وكانت حمامات إذا السيف أُغمدا
...
وما غابت الأوطان..
عن شعري الذي نسجتُ ،
ولا الإحساس يوما تبلدا
....
جعلت رضا الرحمن همّي وغايتي
فحققت ما أصبو إليه مؤيدا( 8)
تطور المفهوم الشعري من الدوائر الدلالية المتجاورة ، إلى الدوائر المتداخلة الممتزجة ، وهو ما مزجه في النص السابق ، فكأنه يعيد تأكيد ما سلف ، ولكن سيكون التطور الرؤيوي هو المزج بين كل هذا في بوتقة شعرية نصية واحدة، لا تعتمد الجزء المتجاور المتتابع ، بل الكل الذي يحوي الجزئيات ويمزجها ، مع تواصل التجديد في الجمال النصي ،مع الحفاظ على موسيقية النص العالية .
لعل أول ملامح هذا التجديد ، تبدو في التناص ، فيقول :
ملهمتي
وأكذبَ الشعرَ إن لم يرتجل فيكِ
وكيف تشرب ماءَ الصدق قافيتي
ما لم يكن نبعها الصافي قوافيكِ
وكيف أرضى لأمواجي
وأشرعتي ، مرافئا
لم تكن يوما مرافيكِ ( 9 ) .
" أكذب الشعر " تناص مع مقولة تراثية : " أجمل الشعر أكذبه " ، وهنا نرى توظيفا جديدا ، فهو يعترف بالمفهوم التراثي ، وهو مفهوم لا يضاد الصدق الفني، ويدعم الكذب ، بل هو داعم للصدق ذاته ، فالكذب هنا يعني عمق التخيل ، وهذا ما بنى عليه شاعرنا توظيفه ، فأكذوبة الشعر ( بدلالة جماله الفائق الخيال ) ، وقد مزجها هنا بخيال شديد الخصوبة جمع صورة الشعر المؤنسن " كيف نشرب ... قافيتي " ، مع العاطفي المحسوس " ماء الصدق " ، مع الشعري الرحب " أشرعتي، مرافئا ، مرافيك " ، وترافق مع الموسيقى الجلية ، موسيقى اللفظ من خلال التكرار اللفظي الموظف بالكلمات " قافيتي ، قوافيك ، مرافئا ، مرافيكِ ".
والملمح الثاني : التوظيف للتاريخي والأسطوري ، حيث يقول :
هل كنتُ أقبلُ ألقابًا ..
يرددها ، من كان قبليَ
يا قمراءُ أهديكِ ؟
وأنتِ أنتِ أيا بلقيس مملكتي
أميرةٌ ، والحنايا من جواريكِ ( 10 ) .
فبلقيس ملكة سبأ ، ذكرت قصتها في القرآن الكريم ، وقد خاطب الشاعر المحبوبة بالمنادى " أيا بلقيس " وهو أسلوب يوسم المخاطبة باللفظ المنادى ، وتجاوز في ذلك البنية التقليدية بأن يسند " بلقيس " إلى المحبوبة ، ثم أضافها إلى " مملكتي " لتصبح المحبوبة أميرة مملكته الرحبة ، ولاحظ أنه لم ينعتها بالملكة شأن بلقيس قديما ، وإنما آثر أن تمايز بلقيس التاريخية إلى بلقيس ذاته الشعرية ، فأنزلها درجة في اللقب ، إلى أميرة ، ثم جعل حنايا مشاعره جواري في بلاطها .
ولا يغيب عنا التكرار اللفظي " أنتِ أنتِ " وهو يدعم هنا موسيقية المقطع ، مع توكيد دلالة التعظيم للمحبوبة .
والملمح الثالث : المزج بين الشخصي والقومي العروبي : حيث نلمح تحولا في الخطاب يخالف فيه ما يتوهمه المتلقي ، يقول في قصيدة " مروة " ، مخاطبا ابنته:
يا مروة الحسناءُ
قولي ..
بالذي سواكِ حلوه
....
وكبرت أكثر يا بُنيّه
فسألتِ عن حال القضيه
ما لليهود يدمرون ويقتلونَ
بلا رويه( 11) .
فالقصيدة كانت خطابا أبويا شديد الرقة للابنة ، ولكنه ارتبط بقضية فلسطين ، تسأل الابنة الأب عن القضية ، واليهود ، والتدمير ، نفس السؤال الذي سأله الشاعر للآباء ، فكأن القضية باتت متلازمة زمنية تتناقلها الأجيال من الجد إلى الأب إلى الابنة . ويسترعنا هنا أصداء من التجربة الأولى حيث نرى الإلحاح على لون من المباشرة في الخطابية ، وهي تعبر عن رغبة الشاعر في تعميق الخطاب وإيصال رسالته ،ولو على حساب الجمالي ، فنرى الإمعان في الترادف فيقول : مروة الحسناء ثم يتبعها بالحلوة ، ويقول : يدمرون ويقتلون ، ودلالة الفعلين تقترب ، خاصة أن " بلا روية " تعد زائدة نوعا للقافية ، وهو تركيب شعري من المتداول الشعري القاموسي .
الملمح الرابع : عنونة القصائد : وهي تيمة نراها واضحة في الديوان الأول ، وهي ظاهرة العنوان الملخص ، الذي يقدم الرؤية مسبقا ، وهنا نرى الشاعر يمعن في هذه الظاهرة ، فتأتي العناوين مكررة في مطلع النص بنفس لفظها ، مثل قصيدة : " لا .. لن أحبك" ، فيقول :
لا لن أحبك فاستريحي
يا نسمة الصبح الصبوحِ
يا غادتي الحسناءَ
قد منيتني ، فأذبتِ روحي( 12) .
النص كما هو واضح من عنوانه ومن مطلعه ، مناجاة رومانسية رقيقة ، وقد جاء العنوان مكررا في المطلع مؤكدا على هذه العاطفة المشبوبة ، وهي تقع ضمن دائرة الذاتي الوجداني ، وتتسق مع ما تقدم في الإهداء إلى مليكة القلب. ونفس الأمر يتكرر في قصائد :" لأنك أنتِ " ، " بدر أطلَّ " ، " المفترق " ، ما عدت حتى خائني " ، " لا تعتذر " ، " ضمدت جرحي " . وتتخذ شكلا آخر في قصيدة " غيرة" ، فالعنوان يشي بعاطفة الغيرة ، وقد تم توكيده في المطلع :
تغار عليّ فاتنتي
لأني أذوب صبابةً
في مقلتيها
وأغرق في بحار من أريج
وألتمس النجاة على يديها (13 )
فجاء العنوان ممهدا للوجداني في النص ، وإن اكتسب دلالة جديدة وهي أن الغيرة متجهة إلى الحبيب الممعن في الصبابة ، الغارق في الأريج ، وليست الغيرة بالمعنى التقليدي بأن هناك امرأة أخرى قد تستحوذ عليه . ونرى جمال التصوير في " أغرق في بحار من أريج " فالعاطفة تعطرت بالأريج ، وسبح العاشق في البحار ، وحين خشي الغرق سعى للتعلق بالمحبوبة ، صورة جديدة ، أن يتحول المائي إلى عطري ،والعاشق إلى غريق فيما هو مشموم .
وهذه ظاهرة جزئية ، فقد أجاد الشاعر في عنونة كثير من قصائده ، وإنما أشرنا إليها لأنها تمثل ملمحا أوليا له ، فهناك قصائد ذات عناوين مبدعة إلى حد الإدهاش ، كما في قصيدة :" بكائية على أبواب مدينتي " ، " صباح النجف " ، وهي قصيدة تعالج الوضع في مدينة النجف العراقية ، والعنوان وإن كان واضحا دالا ولكنه موظف بدرجة عالية ، في النص ، ولو افترضنا غيره ، لخسرنا دلالة التحريض التي يبثها النص ، يقول :
صبح بحجم الفجيعة
حجم المعاناة
حجم الجراحات قلب نزفْ
ويمعن في السخرية السوداء بقوله :
على رقص نانسي يموت الكثير
وفي سحر نانسي يموت الضمير (14 ) .
الخطاب الشعري مباشر ، ولكنها المباشرة الموظفة ، الهازئة ، التي تحرض المتلقي بالوعي ، وتدفعه للفعل .
إن العنوان هو عتبة النص الأولى ، وكلما كان رامزا موحيا معطيا بعض الدلالة ، ورحيق الإحالة ، كان ذلك دافعا إلى الولوج في النص ، لاستكمال الرؤية وتعميق الدلالة .
الملمح الخامس : بنيتا الاستفهام والنفي :
وهي بنية تتخذ السؤال الاستفهام وسيلة لإثارة الفكر ، وتتخذ بنية النفي معولا لهدم المستقر في الوعي ، وهي تتسق مع كون الشاعر ساعيا إلى فعل التحريض والوعي ، وتكاد تكونان تيمة أسلوبية مشتركة في كثير من مقاطعه ، يقول :
قالت : أتهجر هكذا يا شاعرُ
وإلى النجوم النائيات تسافرُ
...
أو لا تروقك
هذه الأرض التي دبت خطاك بها
وهام الناظر؟ (15 )
جمع المقطع السابق بين : الاستفهام والنفي ، وهو يتسق مع العزف على وتر الغربة ، ولكنها غربة مكتسية بالهجرة إلى الكوني " النجوم النائيات " ، ومن هنا كان الحوار في النص بين الذات الشاعرة ونفسها ، حوار يعلل الغربة والهجرة ، ويسعى إلى تبرير المكوث في الأرض .
ويقول :
ما عدت حتى خائني
ما عدت تسكن في فؤادي
ما عدتَ نبضة خافقي
كلا
ولا رعش الأيادي ،
ما عدتَ شمسا نورت يومي
ولا أنت اتقادي ( 16)
تكرار النفي بما ولا وكلا ، يعطي دلالة التكرار الأولية المدعمة للنفي ، وتتسق مع جوهر الرؤية النصية ، التي تتوهج برفض العاشقة المتقلبة ، التي أشقت الشاعر بتبدلات عاطفتها .
يمثل هذا الديوان نقلة نوعية في مسيرة جمال مرسي ، وهو جامع ملامح من ديوانه الأول ، والتطورات الجمالية التي أزادها في تجربته .
* * *
ولنقدم مثالا تطبيقيا على إحدى قصائده التي تمثل المرحلة الثالثة في تطوره الإبداعي ، وقد حظيت بالنشر الإلكتروني ، وهي قصيدة " البنفسج يرفض الذبول"( ) فهي تمثل نقلة نوعية على مستوى الرؤيا والتشكيل .
فمن العنوان الذي هو عتبة النص الأولى ، نعلم حجم الدلالة الجديدة ، "البنفسج يرفضُ الذبول " فالبنفسج زهرة تحوي لونا متماوجا ، يشي بالأمل والحياة ، ويأبى الذبول / السقوط / الاستكانة . فالخطاب زهري ، معبأ بالإنساني العالي . كما يقول في المطلع :
للزهورِ التي نَبَتَت في حِياضِ فؤاديَ ،
للنرجسِ الجَبَليِّ ،
لعصفورةٍ صَدَحَت فوقَ أغصانِ عُمريَ
رقَّ لها الفجرُ..
فَانتَصَبَت شمسُ يومٍ جديدٍِ
و هَبَّت نسائمُ هادئةٌ من صعيدِ البلادِ
بعطرٍ فريدٍ .
إننا هنا أمام عالم نباتي ، والنباتي يعادل البشري ، فالشاعر أقام قلعة شعرية أساسها الزهور ، تساوي البشرية ، وبدا واضحة وشيجة العلاقة بين الإنساني والزهري في : فؤادي ، عمري ، ليعلمنا الشاعر أن الخطاب ذو صلة مباشرة بين العالمين ، وليكون اللعب عطريا في الزهور وعالمها الشامل العصافير والفجر . إن توسل الشاعر بالعطري والنباتي يعبر عن الأمل الخفي ، الذي افتقده في عالم البشر ، فراهن عليه في النبات ، وهي حيلة ترجع إلى توغل الطبيعة في أعماق الشاعر ، وأنه يلوذ بها دائما . والمقطع السابق معبر عن هذه الروح .
قال البنفسجُ لا تقتلوني ،
دعوني على شجر البوحِ
إني سئمتُ الأيادي تَخَاطَفُني ،
تخنقُ العطرَ في زحمةِ الأوجهِ الكالحةْ.
هنا نجد مستوى من السردية الشعرية ، بين مقولة البنفسج ، ولتظهر عيانا أنه معبر عن روح الأمل ، الشعب ، المستقبل ، الذي يرغب في الخلاص والحرية (دلالة البوح ) ، والعطر هنا المعادل الشمي للأمل ، مثلما البنفسج معادل بصري للأمل أيضا . .
في شوارعَ داست على حُلُمي ،
لم تدع للقطا فرصةً للهديلِ
تذكَّرتُ ما قال جَدِّي و بَشَّت له جَدَّتي
حينما كنتُ أمتصُّ ثديَ العذوبةِ و الطهرِ
كان يحدثني عن بُطولاتِ أجدادهِ
و رُعونةِ أحفادهِ
مواصلة الحوار السردي والقصة ، وقد انتقلت بخيط خفي أساسه الـتأمل الفكري في عالمنا ، فالحلم مداس ، بينما الجد ( دلالة الماضي التليد وعظمة تاريخنا ) يعاتب الأحفاد ( رعونتهم ) وهم قد أهملوا هذا الماضي الجميل ، وما أجمل الصورة في البيت الأول : حيث نرى الشوارع ( مكان) معبر عن الوطن الذي داس على أحلام الشاعر ، والشعب والمستقبل ، فالشوارع حملت السلطة والناس والإهمال في دلاتها النصية .
فبكيتُ ، و أمي تحاولُ أن تُسكتَ الطفلَ
تخرجهُ من أساهُ
بتعنيفهِ تارةً ، أو بتدليلهِ تارةً .
كَبُرَ الطِّفلُ أصبحَ نيلاً فراتاً ،
يُلازمهُ طيفُ أمٍّ و نُصحُ أبٍ
و طرائفُ أجدادِهِ الـ..كلما زارهم في المقابرِ
يقرأ " ي~سَ " و الفاتحةْ .
و يُزيُّنُ قبرَهُما بالبنفسجِ
ثم يُولّي إلى حيث تأخذهُ خُطواتُ الإباءِ
يقولُ :
سأثبتُ عكسَ الذي ظنَّ أجداديَ البارحةْ .
يَكبُرُ الحُلمُ
يَغدو كما رَوضَةٍ و البنفسجُ فارسُهَا
و هْو يصنعُ من حُلمِهِ مشمشاً
و سفرجلةً .
المقطع السابق شديد الروعة ، ويكمل الرؤية المهمومة بالمستقبل ، فما أكثر التباكي على هذا الحاضر ، وما أقل التبشير بالمستقبل ، وقد أجاد الشاعر بتناص عالي مع القرآن إلى أساس النهضة حيث الإسلام والأصالة ، مع التسلح بالعلم . وتأتي لفظة مشمشة معبرة عن الثمرة المرتجاة في دلالة جديدة للمشمش ، تعاضد دلالة البنفسج / الأمل ، وهي الثمرة المتوقعة ( المشمش (
نص رائع وقفزة كبرى في الجمال ، مع تأكيد على وضوح الرؤية ، وهذا أضعه على قمة نتاج شاعرنا ، لرهافة النص وروعته ، وجدة أسلوبه .
* * *
إن جمال مرسي ظاهرة إبداعية وثقافية وحركية ، من المهم التوقف عندها بالدرس فهو يمثل التقاء لتجارب شعرية عدة ، جمعت أشكالا شعرية مختلفة الاتجاهات والرؤى والجماليات ، مزجت الهم الذاتي بالهم العام ، وسعى الشاعر إلى تطوير جمالياته عبر مواصلة الإبداع ، الذي يبدو متجددا مضيفا في كل مرحلة إبداعية .
الهوامش :
1 ) ديوان غربة ، صادر عن مطبعة هشام في مدينة كفر الشيخ ، في العام 2001 م ، والشاعر من مواليد كفر الشيخ في العام 1957م .
2 ) ديوان غربة ، ص45 ، 46 .
3 ) السابق ، ص7 .
4 ) شرفة القمر ، مجموعة من الشعراء العرب ، صادر عن سلسلة كتاب المرسم ، دار إيزيس للإبداع والثقافة ، 2005 .
5 ) شرفة القمر ، ص41 .
6 ) أصداف البحر ولآلئ الروح ، صادر عن سلسلة كتاب المرسم ، دار إيزيس للإبداع والثقافة ، 2005 .
7 ) السابق ، قصيدة هو الشعر ، الصفحات : 6 ، 7 ، 9 .
8 ) ص18 .
9 ) ص 22.
10 ) قصيدة مروة ، ص113 ، 114 .
11 ) ص38 .
12 ) ص59 .
13 ) ص105 ، 107 .
14 ) ص42 ، 43 .
15 ) ص86 ، ص87 .
16 ) نشرت في منتدى : " ملتقى الأدباء والمبدعين العرب " ، www.moltaqaa.com .