دعوني أمُتْ هنا!
رغم تقدّمه في السنّ وصعوبة حركته, بسبب تقوّس شديد في رجليه, فقد كان العمّ امحمّد يدير شركته بكلّ صرامة. كان يعيش من كراء كلّ أنواع الألواح الخشبيّة المستعملة في البناء. المادري كهياكل ساندة, والبلانش لقولبة الإسمنت؛ هذه سلعته الوحيدة, يقدّمها لحرفائه من البنّائين, ومن صغار المقاولين. رغم أمّيته فقد كان العمّ امحمّد يدوّن كلّ ما كان يخرج من مستودعه من الخشب على كنّشه البالي, مستعينا في ذلك بأطفال الحيّ ممّن يحسنون القراءة والكتابة. كان يملك أيضا, زياتينا في السّاحل, يزورها مرّة في السّنة لبيع محصولها, فيعود محمّلا بقوارير من الزّيت, وبأكياس من الزيتون, وبحزمة من الأوراق النّقديّة يخفيها بحرص شديد في ثنايا ملابسه. كلّ ذلك كان كفيلا لأن يضمن له ولزوجته العجوز وكذلك لابنه الشّاب المقعد حياة كريمة. واشتهر العمّ امحمّد وزوجته بين الجيران بفظاظة الخلق وبشحّ لا مثيل له؛ ولكنّ ذلك لم يكن ليَحول دون التّعايش السّلمي بينه وبين سكّان الحيّ.
ابنه مصطفى في الأربعين من العمر, أعزب ومقعد عن الحركة؛ فلقد أصيب قبل سنوات عديدة بواحد من تلك الأمراض التي لا تقتل صاحبها نهائيّا, بل تحلّ بجسده وتستوطنه فتمتصّ منه رحيق الحياة قطرة, قطرة. ورغم ذلك, فلقد كان يبدو من دماثة خلقه, ومن البسمة المرسومة دوما على وجهه البشوش, وكأنّه لم يكن شديد المعاناة من وضعه ذاك. لم يكن ذلك إلاّ في الظّاهر.
كانت أيّام مصطفى تمرّ على نفس الوتيرة: تبدأ بتصفّح الجرائد, وتنتهي بمجالسة بعض رجال الحيّ لتناول الشّاي وللخوض في السيّاسة الدوليّة, موضوعه المفضّل؛ لذلك اشترى له والده تلفازا, فكان بذلك أوّل من أدخل هذا الجهاز العجيب إلى حيّنا. كنت أصطحب والدي من حين لآخر, فأغتنم الفرصة لمشاهدة بعض البرامج التّلفزيونيّة في بيت العمّ امحِمد. وأذكر ذات يوم تجمّع فيه حول التلفاز رجال من حيّنا, وكانت وجوههم شاحبة ممتقعة, يعلوها حزن وحسرة. فهمت من بعض تعليقاتهم الخافتة بأنّ الجهاز كان يبثّ مشاهدا من جنازة رجل اسمه جمال. سألت أبي:
- من يكون جمال؟ فهمس لي, مربّتا على رأسي وكأنّه يطلب منّي أن أصمت:
- جمال عبد النّاصر... رئيس مصر يا بنيّ.
تساءلت في نفسي: "هل يموت الرّؤساء أيضا؟" فضّلت أن لا أبوح بهذا السؤال خشية أن أقطع الصمت المخيّم على المجلس, واختلست النّظر إلى مصطفى فرأيت وجهه مبلّلا بالدّموع. ثمّ اشترى والدي تلفازا, وانتقلت العدوى بعد ذلك إلى معظم الجيران, فلم يبقى بيت لم ينتأ من على سطحه هوائي. وخلى مجلس مصطفى, شيئا فشيئا, من الروّاد.
وذات يوم, بينما كنت ألعب مع صبيان حيّنا, استرعى انتباهنا مشهد غير مألوف. سيّارة بيضاء كتب عليها باللون الأحمر كلمة "إسعاف", جاءت مسرعة ومولولة لتتوقّف أمام بيت جارنا العمّ امحمّد. بعد برهة من الزّمن, خرج من البيت رجلان يرتديان ستر بيضاء ويحملان مصطفى على محفّة. كان مصطفى يبكي ويتوسّل رافعا يديه إلى السّماء, مستغيثا:
- "اتركوني هنا... لا أريد العودة إلى المستشفى... ألم يكفهم شللي هذا؟ دعوني أمتْ هنا في غرفتي... أتركوني... أتركوني..."
وغابت السيّارة عن أنظار أهل الحيّ المجتمعين بوجوم وحزن حول والديْ مصطفى المنتحبان. لم أرى مصطفى بعد ذلك اليوم, فيما عدى صورته المنتصبة فوق التلفاز. وكانت آخر مرّة دخلت فيها ذلك البيت صحبة والدي وقد تجمّع كلّ رجال الحيّ يومها حول جهاز تسجيل ينبعث منه صوت عبد الباسط عبد الصمد مرتّلا آيات قرآنيّة, وظلّ يومها التلفاز مطفأً وقد غطّت شاشته القاتمة قطعة بيضاء من القماش المشبّك, واعتلاه إطار خشبيّ مذهّب, يطلّ منه وجه مصطفى المبتسم، البشوش. كانت تلك آخر مرة أره فيها.
مرّت أشهر غادر بعدها العمّ امْحمدْ وزوجته العجوز حيّنا, بعد أن باعا ألواح الخشب إلى بعض المقاولين. وظلّ المنزل مغلقا حزينا, طيلة سنوات عديدة, إلى أن حلّت به عائلة صغيرة, قدمت للتّو من الساحل, وكان البيت نصيبها من إرث العجوز.