حيرة
تعال نغادر، نخرج من بوتقة الحصار المضروب على الروح المعذبة، إلى آفاق وامتدادات الروح المطمئنة الراضية المرضية، هناك حيث الأشياء التي نعرف ولا نعرف، وحيث العذاب يكون حقا له مذاق العدل والعدالة، وله مذاق الرضا والتسليم، وحيث يكون النعيم وفاء لعذاب الروح على ارض الشوك المحمل بإبر الكبر والتكبر.
وليكن رحيلنا من موقع الشوك المدمي لقلوبنا، واللوعة الكاوية لمهجنا وأفئدتنا، رحيل النسمة المغادرة لفح الحر والقيظ وهي تحمل في طياتها عذوبة برودة تلمس سويداء التكوين والوجود، لتنطلق في حضرة الكون والحياة كنور يمد يده نحو الظلمة رأفة بها من سوادها المدلهم على ذاته.
ولنكن أنا وأنت، كنور النسمة ورقتها، نمر من فوق ابر الشوك دون أن نمنحها فرحة الشعور بالألم الناتج عن انغراسها بأعماقنا المدماة أصلا من شوك أنفسنا ورغباتنا الملوحة بإثم الأنانية وحب الذات القادم من غرور زرعناه وهما بأيدينا ثم صدقناه، وارتقينا به إلى مصاف الحقيقة، فتوزعنا بين وهم نحن واثقين من أصله، وحقيقة تأتي لتقول لنا بان الوهم الذي تراه وهما ليس سوى الحقيقة التي تدور في رحى الوهم المزروع بأرض البشر.
نعم ياتي الوهم ليأخذ مكانا نحن مستعدون أصلا لوضعه فيه، بل وخصصناه له قبل أن ياتي ليستقر فيه، باللاوعي والوعي، بالإدراك واللاإدراك، حتى أصبحنا غير قادرين على فصل حروف الوهم عن حروف الحقيقة، وحتى باتت أوعية العقل المستنهضة، أوعية تفوح منها رائحة الصديد، ويتكوم في حفرها القيح الممزوج بالدم الفاسد.
هل دخلت الصحراء يوما؟ هل وقفت في مساحاتها التي تبدو بلا نهاية؟ هل شعرت بكم القيظ والحر المتجمع في سمائها وأرضها؟
هناك تشعر بالرهبة الممتدة إلى نهايات الكون والخلق، ويضيع وقع أقدامك القوية في رمال تمتص الصوت وتخفيه، لتجعلك في حالة يقظة وتنبه، في حالة الانشداد نحو الرهبة التي تكونها المساحات التي تدور بها قدماك فوق الرمل.
وحين يهدك التعب، ويصطادك النصب، ويفرغ الجلد من قطرات الماء والعرق، يدخل إلى روعك ببساطة الرمال المحمولة بالرياح، انك وقعت في عالم ممتد إلى اللانهاية، إلى اللامحدود، تتساءل بينك وبين نفسك، كيف يمكنني الخروج من دوامة الموت الرابض فوق الرمال والآفاق؟
يدخل التراب عينيك، فتفقد الرؤيا، تشعر بالألم الحارق من تغلغل الرمال بالأحداق والبؤبؤ، ينهال الدمع كدفاع طبيعي، تشعر بالحسرة القاتلة، فما يهمي دمع هو بقية ماء تسقط من الجسد لتسارع في نهايته.
هي معادلة صعبة، نعم ومعقدة، فالماء الخارج لإنقاذ العين من الألم والحرقة، مشارك بطريقة ما في التآمر على إنهاء الروح، فلو لم يسقط من اجل العين، لأمد الجسد بالحياة إلى دقائق أو ساعات قليلة، وربما في هذه الدقائق أو الساعات، يطل البقاء برأسه من بين ثنايا الغيب.
لكنها الصحراء الموغلة بالسر، بالهيبة، بالغموض، بالسراب، بالعلاقة الحميمة مع الشمس الغضبى إلى حد الإحراق، ومع البرد القادم وهو محمل بثأر مزدحم على شمس كانت تحول بينه وبين الإمساك بهيبة صحراء تتقي هي ذاتها قدوم البرد الساكن أعماقها.
هي الصحراء التي تقودك برغبة الحياة، وحتمية الوصول، في مساحات دائرية حول نفسك، وأنت موزع بين مخالب العذاب والموت المتدلي من أشعة شمسها، وقر بردها، لتردك إلى خيبة الدوران والانكسار، ثم لتطرحك أرضا، حيا، ولكن دون حول أو قوة، لتبدأ بالتهامك ببطء الموت غير المتعجل على الولوج إلى نواة الروح، بل يقف أمامها وهو ممسك بمقدمتها بكل قوته، ليسحبها نحوه، وحين تستعد للخروج، يعيدها إلى حيث هي، وهكذا يبقيك موزعا بين موت تتمناه، وحياة تتعلق بها ولا تود الانتهاء منها.
هكذا يمتص رمل الصحراء روحك، رويدا رويدا، لكنه لا يلبث أن يلمع من بعيد، فتصطدم عيناك باللمعان القادم المترجرج، تحث الخطى، تدفع بالقدمين، يدفعك الرمل من فوقه وهو يمنيك بقطرات الحياة والنجاة، وما أن تصل، حتى تشعر بالغصة، بالانفلات من أمل عقدت عليه كل ما فيك من اختلاطات وتوزعات وتراكمات.
تشعر باللهب المنبعث من الرمل يدخل قدميك، يرتفع إلى الفخذين، إلى الحوض، فالصدر، يلامس الروح المعذبة بأمل النجاة وحقيقة الموت القادمة من بين الذرات الممتدة، واللهب المتصاعد المتأجج، تشعر بالوهن، بالدخول في عاصفة الانهيار، تتقوس القدمين، وتسقط.
يبدأ الرمل بإرسال ابره في جسدك المطروح فوقه، وتحت سطوة الحر المجفف ماء روحك، يخرج من عينيك بريق متحفز بالرجاء، بالتمني، بدخول معجزة مفاجئة رمل الأرض الممتدة في جسدك، معجزه غير محسوبة، غير متوقعة، تتفجر من الرمل واللهب، ليغيض الألم وتنتشي الروح، وتبدو ذوائب السحب المتقدمة، الحبلى بالغيث، والماء المفرغ من بريق الرمل واللهب الخادع، تنحدر أكثر نحو النهاية، تشل أطرافك، يأتيك العجز من الصحراء التي تطوي مسافاتها في ذاتك وفوق جسدك.
وفجأة، ومن بعيد، بعيد بعيد، تلتقط بعينيك المتفجرتين ألما وغرغرة، بعض الجمال والنوق، تسير باتجاه مخالف لمكانك، وتستقر قراب الماء المتدلية من الجمال، في عمق روحك، تحاول النهوض، فتشعر بان الأرض تشدك نحوها، والماء المتدلي عن ظهور الجمال يصرخ فيك ويشدك نحوه، تحاول الصراخ مستغيثا بالصدى، لكن الحنجرة تدعوك للتكاتف مع نهاية الوجود.
تبدو القافلة وهي تبتعد، تغوص في مسافات الصحراء المفتوحة، تسقط من عينيك دمعة، تتساءل عن مصدرها، بعد أن جففت الرمال كل ما فيك، ترفع يدك لتسرق ملوحة الدمعة إلى الفم، لكنها لحظة وصول اليد تكون قد جفت.
تبدأ القافلة تصغر، وكأنها نقاط موزعة بين حبات الرمل، تماما كالبيوت التي بدأت بالتلاشي رويدا رويدا وأنت تمتطي طائرتك المغادرة إلى آفاق كنت غريبا عنها، وما هي سوى لحظات حتى يبدو الرمل المزروع على المسافات غير المحدودة فارغا من النقط التي انطوت في سر الصحراء وللأبد.
ترى، هل ما شاهدته قافلة، أم سرابا من نوق وجمال؟ لا احد يستطيع أن يجيب عن ذلك سوى الصحراء ذاتها.
وتناهى إلى مسامعه همس ساخن، يفح كأفعى أرهقها سمها المكدس، نعم هي قافلة من النوق والجمال، تتدلى من فوق ظهورها قراب الماء الزلال، ويستأنس الجمع ببعضه، ليشق عباب رملي الشاسع، ومعهم شهد مقطوف من سدر، صاف، كشراب الرمان والكرز، وبين أعطاف القافلة تكمن الحياة التي تنتزع من بين أطرافك.
انهال الأسى في حلقه المتشقق، انهيال الشلال المتدفق في مصبه، خرج قلبه من مكانه، ليأخذ مكانا بين العينين، وانبثقت الرؤى من مكامنها ومهاجعها، لتتلوى فوق الغصة الملأى بالألم والقهر والعجز، ككائن حي يشرف على الموت.
اندفعت الدنيا بتفاصيلها إلى ذهنه، الجبال والوديان، الحنظل والشهد، الزقوم والزيتون، الجوع والشبع، الارتواء والعطش، الفرح والحزن، وفي لحظة واحدة، شهق شهقة، فخرجت الدنيا من بين عينيه وقلبه.
امتدت في الأفق سحابة، كجبل ممتد فوق ارض واسعة، انعقدت، ثقلت، وفتحت نفسها مرة واحدة، فغرقت الأرض بمطر وابل بللها وبرد لهبها.
مرت النوق والجمال، ترجلت القافلة، فتحت الأرض، وأنزلت الجسد المتشقق في حفرة تغص بالمياه المتدفقة إليها من كل جانب.
مأمون احمد مصطفى
فلسطين- مخيم طول كرم
النرويج- 21-10-2006