محاولة تحليلية لفك شفيرة "كاف" الخطاب
في نص " جرح"
للفذ جوتيار تمر
بقلم / د. نجلاء طمان
النص- بعد تعديلات كيبوردية-:
جرح
على ضفة ذاك النهر
كان يسامر ظله منتظرا,
علَ نسمة تهب عليه
محملة جراحا من صوته إليه،
لتمرغ في جراحه
وتفجر فيها حنينها,
ولتعانق من جديد جراح الوطن
***
هنا تنصب مراجيح الطفولة
كل آهات الأزمنة,
بيننا تنصب الاشراقة كل محطاتها
بين رحاب تلك الأودية...
تسترخي المسافات ملجمة
***
يطل السامر بعد غفوة
على النهر... مناديا:
أيها النهر اعطني ثوبي
قبل أن تفضح الاشراقة
عري جراحي,
اعطني ثوبي الآن
والليل لم يزل يخفي
عن حراسك نزفي,
لأني أخشى أن يساوموني
بينك وبين ثيابي .
التحليل ومحاولة فك الشفيرة:
إن ولوج المواقع وسبر الأغوار في نص" جرحي" يتطلب السير بتؤدة مع ركب الاشتغالات الأدبية للأسلوب ومن ثم الحالة النفسية للكاتب. يتم الحوار هنا بين "الأنا" الكاتبة وبين الآخر المتمثل في النهر, والحوار يعتمد على كاف المخاطبة وليس هاء الغائب , فيفرغ الكاتب ما بقى من جرحه في بساطة وتعقيد, وبطء وسرعة, فينبه مجسات المتلقي ويحثها إلى التفاعل معه, ويمسك بتلابيبه بقوة لا يتركه إلا بعد انتهاء النص.
اعتمد السرد على تقنية الاختزال والتكثيف الموازية لمحور التأويل الدلالي للمفردات الموجودة بالنص, مثل النهر ,السامر ,الظل ,أراجيح الطفولة ,الإشراقة ,الأودية ,الليل, والثياب., ذلك لأنَّ التأويل لا يمكن إلاّ أن يكون " التفعيل الدلالي لكل ما يتعلّق بالنص من حيث كونه استراتيجية ، وما يقوله عبر تعاضد قارئه ." كما يصرح " أمبرتو إيكو" . وهذه المفردات الموجودة بالنص أتت من وحي بيئة الكاتب المحيطة به والحاضنة لجرحه , لذا فإن تقنية السرد السريع المكثف في النص -المتعانقة مع تلك المفردات, تبدو كشفرة تعطينا أسرار التحليل والتأويل للنص , لتتجلى ماهية الظهور , وذلك بعرض الحقائق والأماكن و الصور الثابتة والمتحركة داخل النص.
إنَّ السارد في هكذا خطاب يقف على نهر من اليأس والفجيعة, تلطمه كف رياح التشرد الضياع ويعريه ظله الذي هو مرآة لجرحه ؛ لذا يخرج البوح والإفضاء ، محكوماً بالتشرذم والتشظّي . حتى أنّه ومنذ البدء يبدو السارد مشتتا وبغير هدف , وذلك مرَّده فقدان هويته وعرض حاله الواقعي . إن الكاتب يستبدل "النهر" بالآخر المغيب وذلك يعكس وحدة الكاتب وعزلته. ويتكاثف ألم الجرح فيضطر العقل الباطن الي البوح والإفضاء بالتراكمات الدفينة معبرا عن فجيعة الكاتب وخوفه من التعري والإفصاح عن جرحه, فيخاطب النهر في رغبة أكيدة منه لفرض مقصلة الوحدة والعزلة على حياته, وهذا ما يؤكده إلى حد بعيد قول "هلدرلن": «عندما نفسك تتخطى زمنك/ غريباً تمكث حينئذٍ على رصيف بارد/ مع أهلك وأنت لا تعرفهم».
يبدأ الكاتب في مزج جرحه بجرح أكبر وهو جرح الوطن كتأكيد منه على أن مرجعية عظمى من آلامه تعود لآلام الوطن, والباقي يعود إلى الوحدة وفقد الآخر. ثم يبدأ في إضافة مفردات دالة على ذلك منها -على سبيل المثال لا الحصر-أراجيح الطفولة , كإيحائية منه لتأوهات الطفولة في مسارات الزمن , بعدها يتمنى لحظة إشراقة لواقعه مع يأسه من مجيء تلك الإشراقة. ثم يتبلور الإحساس في الخاتمة وينفجر في رجاء وتمني يبثه إلى الكاف المخاطبة – النهر- فيستجدي ثوبا يخفي به جرحه خوفا من التعري والظهور بمظهر الضعيف المكلوم, محكوما بذلك بقوانين نفسية وسلوكية , يسير الكاتب في ظلها , وبالرغم من كونها تشتته إلا أنه يصر على التمسك بها, في حين أنه لو فك نفسه من قيدها, ربما يخفف من عمق الجرح قليلا.
دمت مبدعا والإبداع أنت.
شذى الوردة, رمضان كريم, وربي أكرم.
د. نجلاء طمان