تــــاجر الملح
_ كيلو الملح بعشرة جنيهات .. هلموا إلي ّ ، ملحٌ صيني من بلد العجائب ،
هيـا يا أهل المدينة الجميلة !
اقترب نور الدين من ذلك التاجر ، الذي تبدو عليه ملامح غريبة ، فأخذ يتفحصه من رأسه حتى أخمص قدميه ، كما هي عادته كلما رأى غريباً .
هزّ نور الدين ، ذلك الغلام الصغير الذي لم يتجاوز العاشرة بعد ، يد أبيه المغادر للتو من صلاة العصر ، وأشار بيديه الصغيرتين إلى التاجر الغريب الشكل والأطوار ، يريد أن يتحدث إليه ، لكن أباه ذهب به تجاه البيت ، وهو يمنيه برؤية للتاجر بعد صلاة العشاء .
كانت أزقة القدس ليلاً ، تميل للهدوء بعض الشيء ، إلا من بعض الصبية الذين كانوا يلعبون بالكرة هنا وهناك ، في أطراف الحواري ، وبعض الرجال الكبار الذين يتسامرون ، ويتحلقون في دوائر صغيرة ويقصون على بعضهم أخبار الحج والسفر الطويل ، وما حدث ليلة أمس من هجوم " ابن آوي " على مزرعة الحاج صالح ، والتهامه معظم الدجاجات اللواتي تعبت زوجه المسنة وهي تجمعهن لأجل البيض الشهي ، فثار مازن ، وأقسم أن ينتظر ابن آوى هذه الليلة كي يقتص منه
ومن كل من أرسله .
عاد نور الدين ووالده من صلاة العشاء ، ومرّا على قهوة " فؤاد " الذي كان يبيع أجود النكهات العربية المحمصة ، والتي تفوح رائحتها على بعد كيلومترات ، واتخذا منضدة تطل على باب المقهى ، بحيث يرى الجالس إليها ، المارّة من أهل الحارة والغرباء الذين يأتون للقدس بين فترة وأخرى ، وبينما كانا يتحدثان عن المدينة وكثرة الغرباء الذين بدأوا يتوافدون إليها تجارا ، وزوارا .
كان تاجر الملح ، يقف أمام المقهى في شارع ضيّق مظلم ، يتفحص وجه ذلك الغلام ، الذي لاحظ نظراته اليوم ، وهو يحدق فيه ، محاولاً التكهن بمن عساه يكون .
اقترب ذلك التاجر الغريب ، من المقهى ، وجلس على مقعد قريب من مقعد نور وأبيه ، وتشاغل ببعض البضاعة التي يمكلها ، ثم طلب من صاحب المقهى ، قهوة سادة ، وأخرج من جيبه سيجاراً ، وأخذ يدخنه ببرود شديد .
كان نور الدين متشوقاً لمعرفة قصة هذا الرجل ، وكيف ذهب إلى الصين ، وماذا رأي هناك ، فهو لم يسمع عن الصين إلا من خلال القصص القديمة التي كان يرويها له جده عبد الرحمن ، وكيف فتحها القائد العربي المسلم ، قتيبة بن مسلم ، وهو لا يزال شاباً ، فكان دائماً يملأ صدر نورالدين حباً في الجهاد ، ورغبة في قتال المحتلين .
اقترب نور الدين من ذلك التاجر الغريب ، وسلّم عليه ، ثم بدأ ينهال عليه بالأسئلة ، ويوجعه بتعليقاته الكثيرة ، حتى ضجر التاجر منه ، فأشار لوالده أن يبعده عنه قليلاً ، لكن والد نور الدين الذي لم يسمع ما دار بينهما من حوار ، لم يكترث للأمر ، فاشتاط التاجر غضباً وبدأ في توبيخ نور الدين ، مما اضطر والد نور الدين إلى التدخل لفض المجلس .
عرف نور الدين من التاجر أنه اشترى بيتاً ودكاناً ، وأنه سيبيع الملح وبضاعة أخرى في المدينة ، وبأن أصدقاءه سيلحقون به لمشاركته تجارته .
في طريق عودتهما إلى البيت ، بدا نور الدين غاضباً وهو يحدث أباه عن الدكان التي اشتراها ذلك التاجر ، وكيف أن الغرباء بدأوا يشترون ويبيعون المحلات دون حسيب أو رقيب ، وأنه من المفترض أن تؤجر المباني فقط ، للعمل والمتاجرة لا للبيع والتملك ، فحاول أبوه أن يهديء من روعه وأن يقنعه بأن الأمور ستسير على ما يرام ، حينما يعود الضابط مسعود ، الذي عرف بحزمه وصرامته تجاه الغرباء ، من الحج .
وبينما غادر الرجل وابنه ، كان التاجر الغريب ، ينظر إليهما بحقد شديد ، ويلاحقهما بنظراتٍ معادية ، ويقول في نفسه :
سأفتح دكاناً لي ، وسأشتري أرضاً باسمي ، وسيأتي رفاقي يقاسمونني نعيم أرضكم ، وغداً ستعطونها لنا ، بلا مقابل ، ياأهل بيت المقدس ..
ومضي وابتسامته الصفراء تعلو وجهه , كعادة أبناء قومه .