العيد ... والحرفوش الصغير
أحتُـفلَ برؤية الهلال ... فكان اليوم آخر أيام شهر الصوم الكريم وغدا أول أيام عيد الفطر السعيد ... خرج الأطفال إلى الشوارع والحارات والدروب بمجرد انتهاء ساعة الإفطار ... وارتفعت أصوات المفرقعات التي يلهو بها الصغار.
ليلة العيد وفرحة مكتومة ... وضحكات مبتهجة بين الأخوة والأخوات الصغار والأم تتابع غسلهم واحدا بعد الآخر. في حفل الاستحمام ( العيدي) ,لا يدري الحرفوش الصفير لم شعر بأن الصابون لم يكن يحرق عينيه كعادته أيام الاستحمام في غير مناسبة العيد ... لعلها مصادفة جميلة إذن ...!!. ..جن الليل ولابد لنا أن نهجع .... كم نود أن تطلع الشمس الآن ... قبل موعدها ...!! كل منا يعد عدته من الملابس وتوابعها أما في القرية ..فهو الجلباب ولا شيء غيره ... وقد يمضي الحرفوش الصغير عيده بجلباب جديد وهو حافي القدمين ... لا ضير فدروب القرية بترابها حنونة على الأقدام النحيلة الصغيرة ... ويوم أن أُعلن َ في بيتنا بالقرية أن الحرفوش الصغير سيأخذه جده إلى المدينة الصغيرة كي يفصِّلَ له حذاءا .... زغردت نسوة البيت ... وجاء الأطفال يهنئونه ... وظل أياما ينتظر الحدث أن يتم ... ولكن مرض الجد حال دون تحقيق الحلم المرتجى ... فظل صاحبنا حافيا إلى حين... ينعم بحرية قدميه وهي تعانق دروب الأرض ... في علاقة حميمة ... فهو يتحسس أحوال الدرب بقدميه وأصابعه النحيلة وراحة قدمه تشعر الأشياء تحتها ... تعرفها جيدا ... ... من تراب ناعم ... وصخر مدبب ... ووحل هنا أو بلل هناك ... وهي مقياس يحدد درجة حرارة التراب أو برودة الأحجار ... ... ولكن ما كان يزعجه ليس طبيعة الدرب التي تعشقها قدماه بل ما كان يزعجه هو ... أشياء دخيلة كقطع الزجاج والمسامير ... كانت تجرحه وتؤلمه وتركت ندوبها في جلده حتى اليوم ..... لكن الدروب بكل تضاريسها ... لم تكن تفعل ذلك معه .
ها هو يسعى لتسلم الجلباب ... الذي ننتظره عند الحائك حتى مساء ليلة الوقفة ... وطوابير الأطفال تقف على باب دكانه في انتظار انتهائه من حياكته ... هو دائم التأخر في صناعته رغم المواعيد التي ضربها للأهل بالوفاء بما نريد! )... أما في المدينة فالأمر غير ذلك .
ها هنا الحذاء والجورب ... والبنطال والقميص .... والسترة الصوفية فالعيد كان يأتينا صغارا في الشتاء القارص ... فنملأ أيامه بدف الركض وحرارة الحبورفي اللحظات الرائعة.
نعم سأضع الحذاء هنا تحت سريري بالضبط في موازاة رأسية لرأسي الصغير .. تأخذني سنة من النوم ... أفتح جفني أطل برأسي من فوق سريري أطمئن إلى أن الأشياء الحبيبة لم تزل هناك .... نعم ما زالت الأشياء هناك .. أتحسس رأس الحذاء اللامع ..أرفعه إلى أنفي و أشمه ... أرمق ملابسي الجديدة معلقة على وجه ( الدولاب – خزانة الملايس).
.... يأخذني النوم ....
أمي توقظني في ذات اللحظة التي صحوت فيها على التهليل الصادر من مئذنة قريبة :
)الله أكبر كبيرا. ... لا إله إلا الله ... الله أكبر كبيرا .. والحمد لله كثيرا (
أفرك عيني .. أمد يدي طالبا منها العيدية ... تضحك .. تقرصني من إذني لأفيق وأتوضأ وأدرك صلاة العيد.
تعينني علي ارتداء ملابسي .. الحذاء الجديد جاف ... صلب ...موجع بعض الشيء ... أصابع قدمي لم تتعود عليه بعد ... لكن رائحة الملابس الجديدة تجعلني أفيق كمن شرب أكسيرا للتنبيه ... أمي تتناول زجاجة عطر فواح لم أرها ببيتنا قبل الساعة ... كانت تخبئها في طيات ملابسها ... ترشرش بها على ... دون أن تصيب عيني منها بشيء ... تعدل من وضع ياقة قميصي أشعر أصابعها تحت أذني ... أشعر بالغبطة ... ما أجمل ملامسة يديها لوجهي ..تقبلني في جبيني ...وتتمتم بالدعوات .
... تأخذني إلى أسفل الدرج ... تعاونني أن أنزله ... وإن وجدت مني مشقة في ذلك كانت تحملني بين يديها لأكمل باقي المشوار محمولا بين ذراعيها ... لكنها لا تحملني دائما ... كانت تصر أن أعاني بعض الشيء كي أمشي بعدها في اعتدال دون مساعدة من أحد...( كانت تغني : يا العريس اللي تشوفـِنـَّه ... يا العريس ).
أهبط الدرج ووقع أقدام الصغار مثلي , تسبقني أو تتبعني حسب الطابق الذي يسكنون فيه .... أحاول أن أسرع لألقى بعض أطفال أعرفهم ... الحذاء ثقيل لم يصبح مرنا بعد , أمي تقول سوف يصيح طريا بالمشي فيه ....
الشارع هادئ والصبح جميل رغم برودة الجو .. وضباب كثيف يجعل الزمن غير الزمن والمكان غير المكان ..لطالما تخيلت أن الجنة هكذا .... مغلفة بضباب ... يحفظ أسرارها ... ويحيطها بسور من المهابة والجلال.
صلاة العيد تتردد في المذياع ومن المساجد المجاورة وصوت الإنشاد الجماعي لأذكاره يثير في النفس بهجة وخشوعا ....
( الله أكبر كبيرا وسبحان الله بكرا وأصيلا .. لا إله إلا الله وحده صدق وعده ....)
تدمع عيني الآن في عمري هذا إن جلست بين المصلين لأنشد مثلهم .... حتى تتهدج أنفاسي بالبكاء ... هل هو شعور الخشوع ؟ أم هي خلجات الذكريات منذ عهد الطفولة .؟.. أأبكي ذنوبي وطهري الذي تلوث ؟ أم أبكي عمرا يتسرب بكل حلاوته وبراءته ونزقه ..؟ أم هو الحنين إلى قصص حب لم تكتمل ... وأزمان لم يذهب طعم حلاوتها من الوجدان؟
عزيز القارئ ...دعونا الآن من خلجات الحزن يوم العيد وهيا نعد إلى البيت نتناول طعام الإفطار ... مع العائلة ... وهو طعام أسواني أصرت أمي أن تعده لنا وكغيره من الأطعمة الأسوانية التقليدية .. في كل مدينة انتقلنا للعيش بها .... كانت تصطحب حياتها الطفولية الأسوانية في كل دروب عمرها ولو بعدت عن أسوان .. احتفظت بذكريات طفولتها معنا ... ونقلت كل مباهجها وحكاياتها وشجونها وأفراحها وخيالاتها وأحزانها إلينا ونحن نعيش حياتنا الحديثة في المدينة .. دون أن تقطع عاداتها المحببة أو تقاليدها الراسخة ... وأحببنا كل ما تفعل ... ولهذا لم ننقطع عن أرض الأجداد سوى بالمكان فقط .....احتفظت أمي بالطعام التقليدي وبلهجتها الأسوانية المحببة إلى النفس التي علمتنا إياها كما كنا نتعلم دروسنا المدرسية كل مساء.. وكانت تتواصل بلهجتها معنا و بيننا وهكذا خلقت موقفا تربويا تعليميا لنتقن فيه اللغة ببساطة شديدة.
.
انتهت صلاة العيد ..نذهب الآن لتناول طعام الإفطار .... والإفطار عندنا في قريتنا يتكون من رقاق
( وهي أقراص رقيقة جافة ) مكسرة إلى قطع صغيرة وتغمر بالحليب الدافئ المُحلى بالسكر و المخلوط بالزبد ويصبح التكوين ثريدا لذيذ الطعم يؤكل باليد ..... كنا لا نعبأ بالأكل منه إلا على عجل من أثر نشوة الفرحة بيوم العيد.... وننطلق فوق الدروب.
يجتمع الرجال في مكان والنساء في مكان آخر من صحن البيت الكبير ... إن كنا في القرية أو في الصالون إن كنا في المدينة .. وتبدأ الزيارة مباشرة بعد صلاة العيد ... عند أهل أسوان ...زيارة الأهل والأرحام واجب أسبوعي مقدس في غير أيام العيد ... فما بالك في أيام العيد ذاته؟...
وفرحة العيد تغمرنا نركض فوق الطرقات صبيانا وصبايا... وننسى حتى جوعنا ... ولا نهجع في البيت إلا إذا حل الظلام .
.أما صديقتي أو ابنة الجيران فكانت دائما في بؤرة الصورة إلى جانبي في كل الأحياء التي سكننا بها أو تنقلنا بين بيوتها طوال سني العمر ... ففي القرية ... تمشي البنات في استحياء وهن يرتدين ملابسهن الجديدة وهي ملابس تقليدية عبارة عن عباءة مزركشة وغطاء للرأس ملون ومزخرف بأحجبة ومثلثات من كل لون يلتف حول الوجوه السمراء اللامعة والكفوف تزينها نقوش الحناء ورسومها الخرافية الجميلة،
.. والعطر في أسوان له شجون ... وله وقع في النفس والروح والوجدان ... عطور مركبة مختلطة .. من أنواع شتى ...كالصندل والعنبر والمسك والحناء ... لا يعرف سرها سوى الأسوانيين ... والسودانيين أيضا .. وأهل النوبة ... وللعطور هناك حكماؤها ومعدوها وخبراؤها ... تطحن الأشياء وتعصر الزيوت ... وتمزج العناصر في حرفية وتؤدة ... والناتج دائما ... شيء رائع .
ويمر يوم العيد في قريتنا والبنات يضربن بالدفوف ... ويغنين في صحن الدار ويرقصن ... وإن مر صبي متطفل أو شاب مغامر ليطل عليهن خلسة من فوق رأس سور البيت ... كن يركضن إلى داخل غرفهن في حياء وهن يكركرن بالضحكات ... والصرخات .. وكان بعضهن يتجرأ كي يقذف المتلصص في وجهه بشيء من قطع الحلوى الملفوفة في ورق السوليفان الملون أو بشيء من التمر .. أو الكعك..... أهو عقاب أم ثواب؟ أهو ترحيب أم رفض وطرد ؟ ....لا أدري.
ابنة المدينة .. ابنة الجيران ... أو ابنة العائلة ... تختلف رؤاها عندي في العيد عن القرية ...وصورتها بضفائرها السوداء وشرائط حمراء تلم خصلاتها اللامعة ... ورائحة ملابسها المعطرة الجميلة ... وفستانها النحيل الخصر المنفوش على شكل مروحة ملونة ,وجوربها الأبيض وحذاءها الجديد ... تجري .... ونجري وراءها جميعا ... بين الحقول حينا وفي الشارع الموازي للبيت حينا آخر وفي الحدائق أحيانا ... وعند الأرجوحة أحيانا أكثر . كان منا من يسقط فتجرح أو تخدش ركبتيه خشونة الطريق .. ومنا من تتسخ ملابسة عند أول خطوة له على الدرب إن صادفه وَحـْـلٌ لم يستطع أن يتجنب المرور فوقه فيختل توازنه فتنزلق قدماه الصغيرتان.وإذ يمسح كفيه المتسختين بالطين في ملابسه بتلقائية بريئة , فتزداد الأخيرة اتساخا ويزداد هو بكاء وعويلا.
تتوالى أيام العيد ... ومع تتابع أيامه تزداد نشوتنا من رؤية الزوار ... والعيدية التي تنهال في كفوفنا الصغيرة .( كانت قطعا معدنية ونحن صغار ( وكم ابتلع حرفوشنا الصغير قطع النقود المعدنية التي كان يحلو له أن يحتفظ ببعضها في فمه ) ...وعندما كبرنا قليلا , تحولت ( العيدية ) إلى عملة ورقية من الفئات الصغيرة ... أوراق مصقولة ... جديدة ذات حواف يمكنها أن تجرح .!! كنا نرفض بشدة أي أوراق عملة قديمة ... إذ تحولت إلى ما يشبه قطعة قماش متسخة من وقع تناولها بين الأيادي والأصابع ... كنا نفرح أيما فرحة بالعملة الورقية الجديدة المشدودة الرائعة الألوان ،
(وكان أو ما يشتريه الحرفوش الصغير هو البالون ).. كنت سيء الحظ مع البالون الملون الذي ما إن أبدأ في نفخه حتى ينفجر .,.,وان اكتملت استدارته وامتلأ بالهواء . جاء طفل منكود غبي ليدس فيه فجأة رأس دبوس ... فتنفجر البالونات والغضب والدموع والمشاجرات .
.وكنت أهوى شراء المفرقعات الصغيرة التي يزول الإحساس بمتعتها بعد ثوان من انتهاء الفرقعة ... وأشعر أنني قد خدعت ... فإن الاستمتاع بالمفرقات لا يدوم طويلا ...... تماما كلحظات متوهجة بالنزوة العابرة.
وكنت أيضا في المدينة سيء الحظ مع ألعابي التي أشتريها أو التي كانت تهدى إلي... فبمجرد ظهوري بها وهي في يدي إلى الشارع , يمر صبي شقي كالسهم ويخطفها ويختفي .... ولا يمكنني الركض خلفه بالطبع .. فحذائي الجديد يؤلمني بشدة ... فاٌقعي عاجزا والحذاء الثقيل يشدني إلى الأرض ...... فلا ضير من قضاء بعض الوقت فوق رصيف الشارع ... في لحظة بكاء مكتوم ..ألم في القلب وألم في القدم.
أفيق بعدها على صوت مدفع العيد ( يضرب في أوقات الصلاة الخمس عشر طلقات ).. ويصيح الأطفال بعد كل قصفة ... مهللين مستبشرين ... فيصيح الحرفوش الصغير معهم وينسي في غمرة الفرحة الطفولية أحزانه الفائتة . وكانت ابنة الجيران ... دائما معي .ما زلت اذكر قرطها كحبة الحمص الكبيرة يلتصق بإذنها الصغيرة مختفيا حينا وباديا أحينا أكثر من خلف خصلتها اللامعة... لا نكف عن اللعب والاختباء والظهور والدوران والركض في الحارات والشوارع نملأ وجداننا من مباهج ما نراه أمامنا ونسمع... ونلمس الأشياء بكل دهشتنا الغامرة .. كنا نكتشف الزوايا وننقب الأماكن .... نختبئي تحت الدرج في قعر بيت ... أو نتوارى خلف ( عشة ) للدجاج على سطح آخر .. .. ونقلب الأحجار ونتسلق الأسوار والشبابيك ... ونركض خلف القطط وصغار الكلاب ... ونخطف العصافير من أعشاشها .. والحلوى من أيدي غيرنا من صغار الأطفال ...كان هذا ديدننا في الأيام كلها ... ولكن للعيد معنا شأن آخر ... جمال في القلب ... ونور في العين وبهجة نشعرها تطل من سماوات الله العامرة بالضياء والشذا , لتحوط عالمنا الصغير .
ما بين الفرح والحزن والحسرة والبهجة والمتعة والألم ... يمر العيد ...
ويبرز في النفس حزن مـُمِضٌّ أن العيد راح ولن يأتينا إلا العام القادم ... كان شعور الوحشة والانقباض يأتيني عند غروب آخر يوم من أيام العيد المبهجة ... كأن ضيفك العزيز قد هم بالرحيل ... وأوشك الزمان أن يعود دورته العادية ... بأيامه التي لا يمكن أن تكون عامرة بسر الفرحة كالأعياد في عهد الطفولة ...( هكذا اشعر أيضا إن هـَمَّ بالرحيل ضيفٌ مكث عندنا أياما)
ويتجدد بوح النهر ... وتنضج الفاكهة والتمور ...وتكبر الفتيات ....وتستتر الضفائر والعيون وتنقطع الفتيات عن مخالطتنا .. ويختفين وراء الخدور والشبابيك ...صرن يخرجن بصحبة أمهاتهن أو يمشين خلف أزواجهن في حياء وخفر وقد لففن عباءاتهن التي لم تكن يبين منها سوى عين واحدة ترى منها الفتاة الطريق.. وتكبر رؤوسنا .... وتنبت الشوارب ... وتدور الشمس دورتها ... فتلفح الوجوه والسواعد .. وتفتل العضلات وتنير الخدود ....وتحملنا السيارات والقطارات و السفن والطائرات... ونزور المدائن ونغشى الفنادق ونرسو بالمواني ونهبط بالمطارات ونجتاز حدودا شتى ..ونحيا ببلاد
وأصقاع عدة .. ... نلتقي وجوها وأصنافا من خلق الله لم نرها من قبل ... نتخذ الصداقات ...... ونقيم وشائج الحب والمودة وقد تُفرض علينا عداوات لم نقصدها ولم نسع إليها ..
... ولكن تظل صيحة صلاة العيد :
( لله أكبر .. الله أكبر الله أكبر كبيرا ...والحمد لله كثيرا )
في ذلك الصباح المتجدد كل عام مرتين ...مبهجة كما كانت ... رغم ثقل المسئولية ... وتعب الدروب والغبار الذي علق بنا ... ... نحاول أن نجتر شيئا من فرحتنا الماضية وساعات العمر الجميلة نحياها في الذاكرة ...والعمر ينسرب كماء النهر نحو مصبه . يوما بعد يوم... تحين مواسم للحصاد وأخرى للجفاف ...ومواسم للقصف ... والتفنن في قتل الأطفال بلذة غامرة ... وسياسة محكمة ... وتدبير كوني ... وسكوت أممي ... ولكن بهجة الأعياد لم تزل نراها في عيون الصغار وأحلامهم وضحكاتهم ..... وألوان ملابسهم الزاهية.