الكابوسُ اللذيذُ
وقفتُ أمامَ قاضِ المحكمةِ فقال لي :
_ أتقسمينَ على قولِ الحقِ ولا شيء غيرَ الحقِ ؟
_ نعم سيدي أقسم على قول الحق , ولا شيء غير الحق
_ ما اسمكِ ؟
_ فلانة بنت فلان
_ ما عمركِ ؟
_...
_ همسَ لمستشاريهِ فهزا رأسيهما فقال :
_ لا داعي لذكر السن , ما وظيفتكِ ؟
_ عاشقةٌ سابقةٌ
_ أتعرفينَ هذا الرجلُ الماثل أمامكِ في قفصِ الاتهامِ ؟
_ نعم أعرفهُ سيدي القاضي , وهو موضوع شكوايَ
_ بماذا تتهمينهُ ؟
_ أتهمهُ سيدي بسرقةِ شبابي , منذُ أربعينَ سنة دون ذنبٍ أو جريرةٍ مني
, بحجةِ الحبِ .
ثمَ نظر إلي المتهمِ , فسألهُ وهو يضعُ العمامةََََ جانباً :
_ أتقسمُ على قولِ الحقِ ولا شيء غيرَ الحقِ ؟
_ نعم سيدي أقسم على قول الحق , ولا شيء غير الحق
_ ما اسمكَ ؟
_ فلان ابن فلان
_ ما عمركَ ؟
_ تجاوزتُ الستين بقليل
_ ما وظيفتكُ ؟
_ ...
_ سألتكَ ما وظيفتكَ ؟ أجبني ؟
_ عاشقٌ سابقٌ
_ كذبت ! بل سارقٌ سابقٌ
_ لم أسرقَ شيئاً سيدي
_ بل سرقتَ قلبَ وشبابَ هذهِ المرأة منذُ أربعين سنةً , أتُنكرُ ذلك ؟
_ المتهمُ بريءٌ حتى تثبتَ إدانته , وحتى لو ثبتتْ إدانتي فقد سقطَ حقها
بالتقادمِ مع مرورِ الوقتِ
_ إذن تعترفُ بالجريمةِ ؟
_ لا أعترفُ , فإنّ كانَ لديها أدلةٌ أو شهودٌ فلتأتِ بهم على أعينِ الناسِ ؟
_ قضايانا لا تحتاجُ لأدلةٍ أو شهودٍ , فقط إما الاعتراف أو وضعكَ على
جهاز كشف الضمائرِ , فماذا تختار ؟
_ فليكن , ضعوني على جهاز كشف الضمائر
تمَ وضعهُ على الجهازِ , وكانَ تقرير فنيُ الجهاز كالتالي :
_ سيدي القاضي لم نجد له أي ضمير
_ أعدَ الكشف عليه أيها المختص ثانيةً
أعاد الكشفَ عليهِ من جديد وقالَ للقاضي :
_ أؤكد لك سيدي القاضي بأن لا ضمير لديه , كل ما وجدناه
منطقة سوداء مظلمة , تغلفُ شيئاً أسوداً يشبهُ الضمير .
_ أتراهُ مذنباً
_ نعم سيدي القاضي , بل ومذنب من الدرجةِ الأولى بشكلٍ لا يقبلُ الشك
_ أيتها المرأة أسردي لي ما حدثَ بالضبط , بكل صدقٍ وأمانة .
فتقدمتُ إلي منصةِ القاضي وقلتُ :
_ سيدي القاضي : ذاتَ يومٍ كنّا سوياً جلوساً على شاطئ البحرِ , فأخذت
أعبث في الرملِ ...
_ اختصري أيتها المرأة
_ رفضتُ أكثرَ من عريسٍ تقدموا خاطبين , قلما ترفض أية فتاة ...
_ اختصري من فضلكِ
_ ... تعاهدنا على الـزواج عهداً أبـدياً , لحظتها قبلني قبلةً على جبيني, فاحّمر وجهي خجلاً , لكنني شعـرتُ وكأن لمسة سحرية هزتني بشكلٍ لذيذ , فاقت كل ما تصورته من لذاتٍ عرفتها طوال حياتي , فعرفتُ أنّ ما قرأته في الرواياتِ شيءٌ وأنّ ما ينبع من تجربة خاصةٍ شيء آخر , أعمق آلاف المراتِ وأروع بكثير, مما قرأت .
سافر ليكمل تعليمه , وانتظرتهُ خمسُ سنواتٍ خلتها قـروناً , وعاد بعدها ...
_ حبذا لو تجاوزتٍ عن بعضِ التفاصيل .
ومر أسبوع ثم شهر , وإذا امرأة حسناء فاتنة قادمة قيل عنها زوجته , فكأنما القيامة قامت , وقدري أن أصدق وأنّ أسأل عن السبب , صدّقت ولكني لم أسأل عن السبب ؟ وكأنَّ ما كان كانَ مجرد حلمٍ أسو كابوسٌ ؟ لست أدري ... .
فلم أتمالك نفسي فبكيتُ , فأخرجَ القاضي منديلا وردياً فناولهُ حاجبهُ , فناولنيه فمسحتُ به دموعي , وانتظر القاضي حتى هدأتُ , فنظر القاضي إليه نظرةً غاضبةً وزفرَ زفرةً قويةً , وقال بشكلٍ يحملُ معانِ الغضبِ والاستياءِ الشديدين , وهزَ رأسه مرتين أو ثلاث :
_ أصحيحٌ ما قالت المرأة أيها الـ ... متهم ؟
فقالَ وهو يرتجفُ :
_ نعم نعم سيدي القاضي صحيح
فنظرً إلىّ وقالَ بمودةٍ متناهيةٍ جداً :
_ أكملي أكملي أيتها المرأة الصابرة.
_ فانطويت سيدي القاضي على نفسي رغم نداءات قلبي الثائرة تحدثني قائلة :
_ سليهِ أيتها الغبية , لماذا كان ما كانَ , ألِشيء كان فيكِ أم فيهِ ؟
ولكن لا حياة لمن تنادي , رضيت بقدري مكرهةً , حتى حينما التقينا صدفة ذاتَ مرةٍ سألني :
_ أين أنتِ ؟ كيف حالكِ , هل تزوجتِ ؟
لم أجبه بحرفٍ , بل تركته وهو يأنأنُ ويهلهلُ , ومضيتُ في طريقي لا ألوي على شيء , وحين عدت إلي البيت بكيت وبكيت وبكيت , فمـا كان من أخي الصغير ذي الستِ سنوات , الا أن مسح دموعي قائلاً :
_ دعيه يا أختي , وأحبيني بدلاً عنه , لن أترككِ مثله .
وقبلني ومضى , فأفقت على وقع كلماتهِ , وما تركتْ من أثرٍ في
نفسي فكففتُ عن البكاء بل أذكـرُ أنّي ابتسمتُ , وأصلحتُ من هيئتي
, وأخذت بعضََ زينتي, واستدعيت أخي الصغير وأجلسته بقربي
وسألته:
_ أقالَ لكَ أحداً ما قلتَ لي قبلَ قليلٍ ؟
_ لا
_ أعدْ عليّ ما قلتَ إذن :
ضحكَ وكان وجِلاً بشكل بادٍ على محياه فسألني :
_ لماذا ؟
_ لأتأكد من حبكَ لي , فأنتَ رجلٌ , والرجالُ كثيراً ما يغدرون ,
لذلك فأنا أخاف من جميعِ الرجالِ . احتضنني بحرارة وقال وهو
لا يزال يعانقني :
_ دعيهِ يا أختي , وأحبيني بدلاً عنه , لن أترككِ مثله .
_ أتعاهدني على ذلك ؟
_ ماذا تقصدينَ بالعهدِ ؟
ارتبكت أول الأمر فيما أنا قائلةً له , ومرت لحظات فقلت :
_ حينَ كنتُ أعدكَ بقطعةِ حلوى , أكنتُ أخلفُ وعدي معكَ مهما حدث ؟
_ لا بل كنتِ دائماً تصدُقين
_ أفهمتَ الآنَ معنىَ الصدقُ في الوعدِ ؟
فابتعدَ عني قليلاً وسألني ببراءةِ الأطفالِ قائلاً :
_ أكانَ كل ما عاهدكِ عليه قطعةُ حلوى , ثم لم يفِ بوعدهُ لكِ ؟
ضحكتُ ومن كل قلبي , ولأول مرة منذ الكارثة , لكــون كلماته
كانت بريئة وعفوية جداً فقلتُ :
_ نعم نعم ! شيءٌ من هذا القبيل
_ أعدكِ بأنّ أجلب لك أكبر قطعة حلوى في العالم , فقط انتظري
حتى يتوفرَ المبلغُ معي فأشريها لكِ .
عصر ذلكَ اليومِ أتاني أخي الصغير ضاحكاً في غاية الســرور ,
حاملاً قطعةَ حلوىً كبيرةً وهو يقول :
_ لقد وفى بعهدهِ وها هيَ قطعةُ الحلوىْ التي وعدكِ بها ...
قاطعني القاضي فوجهَ سؤالاً لهُ :
_ ماذا كنت تقصدُ بإعطائك الصغيرُ قطعةََ الحلوى ؟
_ حكى لي الصغير بأن أختهُ غاضبةً مني , بسبب عدمِ إعطاءها
قطعةَ الحلوى , فوجدتُ أنّ الأمرَ هينٌ , فأعطيةُ الحلوى ...
_ الأمرُ هينُ , مجردُ قطعةَ حلوى من وجهةِ نظرك .
هزَ القاضي رأسهُ أكثرَ من مرةٍ ثمَ نظرَ إلىّ وقالَ :
_ أكملي
ثم أردفَ أخي الصغيرُ بكل براءةٍ وهو لم يزل لاهثاً :
_ خذي , إنها كبيرة
كانت أمي إلي جواري , فضحكت حينما أخبرتها بالقصة ,
وأمسكتُ أخي الصغير من كتفيه وأنا أقولُ له :
_ أعدْها إليه فوراً , ما عدت أريدها !
فأصابته خيبة أمل , وتلاشى سروره , وقال في عفوية يشوبها ألم :
_ أأعيدُ لهُ قطعةَ الحلوى ؟
ثم استعرضها بينَ يديهِ وأضافَ :
_ انظري إنها كبيرة جداً يا أختي !
فنظرتُ إليه كالغاضبة , آمرةً إياه بإعادتها له , فانصاعَ على كـرهٍ
منه , وقمتُ من فوري فاشتريتُ له قطعةَ حــلوى كبيرة من نفس
النوع , وحين أعطيتها له , أقبل عليّ مبتهجاً وقال :
_ أعاهدك على الحبِ ما دمتُ حيا
_ وأنا كذلك
ومرتْ أربعونَ سنةًً , ولا زالَ أخي على العهدِ , وأنا كذلك.
هذهِ قصتي سيدي القاضي
فنظرَ إليهِ شزراً قائلاً لهَ :
_ أصحيحٌ كلُ ما قالتهُ هذهِ المرأةُ آنفاً ؟
فقالَ وفرائصهُ ترتعدُ هلعاً :
_ نعم سيدي القاضي , كلُ ما قالتهُ تلكً المرأةُ كانَ حقا .
فأخذ القاضي نفساً عميقاً , وزفر زفرةً قويةً,وأشارَ إليه بإصبعهِ قائلاً :
_ حكمنا على ضَمِيرُكَ الميتِ , بالحبسِ ألماً أربعينَ سنةً , رُفعتِ الجلسة
فهبَ الحضورُ قياماً فزعين , ودوّى التصفيق إعجاباً بقرارِ القاضي ,
لحظتها أيقظني أخي من النومِ وهو يقول :
_ ما بكِ أختي ؟ تأخرتِ في النومِ على غيرِ عادتكِ , أهو كابوسٌ ؟
رأيتكِ مرةً تبكين وأخرى تضحكين ...
فضحكتُ ضحكةً باهتةً , وقلتُ لهُ :
_ كفاكَ قلقاً علىّ أيها الرجلُ الصغير , مجردُ كابوسٍ ...
ولم أكملُ ما نويتُ قولهُ بل قلتُ برقةٍ ماذا تريدُ فقال في فرحٍ :
_ اليوم عيد ميلادي , ألا نحتفلُ به ككلِ عامٍ .
_ كلُ عامٍ وأنت بخير يا أوفى أخٍ في العالم .
_ وأنتِ بخيرٍ يا أوفى وأجملَ أختٍ في العالم
ثمَ قبلَ يدي , وجلسنا نحتفلُ , بعيدِ ميلادهِ السادسَ والأربعين.
قصص قصيرة :
صرخات من درب التبانة .
أبو عبد الله / خليل انشاصي .