يركضون نحو الأمل ، يسبحون باتجاه الموت ، يلتحفون أكفانهم ويسيرون إلى أين ؟ من يدري إلى أين تقودهم خطاهم أو خطاياهم ، لستُ أدري ؟
ينشبون مخالبهم بآمالهم المشروعة ويسيرون ، لكنهم يستقلون مراكب الوهم ، دليلهم أعمى ، لا خارطة ولا بوصلة تنير لهم الطريق ، يعتمدون على النجوم ، والسماء فوقهم ملبدة بالغيوم ، ولا ملامح لها ، وكأنها تدرك أي مصير ينتظرهم ، لكنهم لا يأبهون ، ويستمرون بالهرولة ، لاجئون ، لاجئون من جنسيات مختلفة ، أخوة كانوا ، لغتهم واحدة و دينهم واحد ، لكن المارقيـن الجدد أصحاب العمائم ومخاتير زمن الذل والشعوذة شتتوا أوصالهم ، فأصبحوا أجناسًا متفرقة ، لكن الهروب وحدهّم ، لاجئون و هاربون من كل شي، ذهب عصر النفاق بأحلامهم ، وأكل أرباب الفساد آمالهم ، وجثم أصحاب النفوذ والسلطان على لقمة عيشهم ، ودمر الأعداء بنيانهم ، فكانت الفضيحة أكبر من أن تغطى بورقة التوت ، وكانت الفاجعة أعظم من أن تُنسى ، لكننا تعلمنا أن ننسى ، هكذا تعلمنا نحن القابعين هنا ، تحت رحمة هذا الوهن وهكذا أصبحوا هم لاجئيـن عرب ..
رأيتهم يسيرون ولسان حالهم قد توحد ، وحدهم فجرٌ كاذب ، رأوا أنه قد يكون هناك ، بعيدًا عن هنا ...
إلى أين أيها الهارب من كل شيء ؟ إلى أين تريد ،
هل تبحثُ عن المدينة الفاضلة ؟ هل رحلت الملائكة عن زمانك فتلوث الهواء برائحة الخونة وأزلام الشياطين ، فلم تعد تستطيع التنفس ؟
نعم ، نحن لسنا ملائكة ، ولكننا ، لسنا كلنا شياطين ، فإلى أين تريد ، وهل ستترك كل هذا خلفك وتمضي هكذا ...
أهي رياح اليأس وقد عصفت ببقايا ذاكرتك ، فنسيت من أنت ومن تكون ، فإلى أين تسير ، تجري بخطىً سريعة ، حاملاً بقايا حقيبة على ظهرك ، إلى أين تريد ؟
ـ إلى هذا المركب الذي لا يحمل شراعًا ولا علامات فارقة ونحو المحيط وإلى الموت أو الحياة أو المجهول، لا فرق الآن بين المسميات ، فالكل أصبح سواء في خضم هذه الملحمة الدامية والعارية والفاضحة لكل شيء .
ـ ولمن ستترك هذا المكان أيها الراحل ، لمن ستتركه ؟
ـ وهل ما زال المكان كما كان ، ألم ينقلب علينا الزمان ، ألا ترانا وقد تقطعت أوصالنا ولفظتنا الحياة ، وتفرقت بنا السبل ، لاجئون نحن ، لاجئون في أوطاننا ، وفي كل مكان نذهب إليه ، لاجئون من كل شيء ، لاجئ أنا من بيتي وذاهب إلى العدم بإرادتي ، و سأمارس آخر ما تبقى لي من حريتي المسلوبة ، وسأرحل عن بلاد ضنّت عليَّ بأبسط حقوقي ، عن بلاد أصبحت فيها غريبًا ، عن بلاد تاجر بها أبنائها ، فأصبحت تباع وتشرى ، لاجئٌ أنا عن بلادِ العُربِ ، لفظوني وراء ظهورهم كشيطانِ أجرب ، وقتلوني بصمتهم ،ثم تداركوا الأمر بعد أن فضحهم عجزهم فأبدوا أسفهم ورموا على جثتي بقايا أوراق تنديداتهم ، واستخدموها كشحاذ يتسول فتات الطعام ليظهروا حسن نواياهم وسلامهم ، جعلوني مثل ثور يدور في ساقية ، فلا الساقية تعبت ولا الماء خرج منها ، لاجئون نحن في بلادنا ، لذلك فقد قررنا الرحيل ..
ـ لا ، لم يضقْ بنا المكان في هذا الزمان لنهجر أرواحنا ونرحل ، أما نستطيع البقاء ولو قليلاً، أما نستطيع الصبر رغم كل هذه الصعاب ، لعلنا نستطيع أن نداوي جراحاتنا و نلملم أشلاءنا ، ونكفكف الدموع عن أعين أطفالنا وأمهاتنا ، وندفن موتانا كما يستحقون ، ونودعهم ، بما يليق بهم ، ونرمم بقايا جدران هذا القلب ، و هذا المكان ، أرضنا وذكرياتنا وتاريخنا كله ، هنا ولدنا وهنا سنموت ، ما زال بإمكاننا أن نحلم ، فدعنا نحاول أن نعيد ترتيب هذه الفوضى من جديد ، فلعلنا نستطيع ، فرغم كل شيء ... ما زال بإمكاننا أن نأمل بقادم أجمل ، وقد نموت نعم ، قد نموت قبل أن نحقق شيئًا ، لكن أن نموت هنا وليس هناك ، ولست وحدك ، لسنا وحدنا في هذا ... فتوقف قليلاً واستمع إليَّ وعد لنفسك ، فأنت لم تكن يومًا إلا أنتَ ،لست لاجئاً ولم نكن يومًا لاجئيـن ، وهذا الجحيم سينتهي ، وسيرحل إلى غير رجعة ، وهذا الزمان وقد دار دورته ، ولا بد للمسار من أن يستقيم ، وهذه سنن الله في كونه وقد تحققت ، أمرنا فعصينا ونهينا فما انتهينا ، فكان ما كان ، فلا تيأس من روح الله ،ولا يغرنك مكر الشيطان وأعوانه ، فكثيرون مروا من هنا ، لكننا نسيناهم ، كثيرون مروا من على جثثنا لكنهم ذهبوا إلى غير رجعة ، نسيناهم فلم يكونوا منا ولم نكن يومًا منهم ، فإياك أن تذهب فتُنسى ، وانظر إلى غدك إنه قادم ... قادم إليك ما دمت تملك الإصرار على الذهاب إليه ، خطوة بخطوة ونلتقي في منتصف الطريق أو في آخره ، لا فرق ، ما دمنا نسير ، وحتى ولو لم نكن ملائكة ، وحتى لو عاش بيننا كل الشياطين ، فالغد يسير لمن يملك إيمانًا بعدالة الحلم وحرية المصير ...
هل ما زلت مصرًا على الرحيل ، إذن ، لماذا لا تأخذ معك من تحب ، أم لم يبقَ في القلب مكانٌ لمن أحببت ، أتراك أدمنت الوحدة فلم تعد تخشاها ، ألا تخشى جفوة الزمان بعيدًا عن هذا المكان ، ألا تخشى الغرق في بحر عواطفك ، في لحظة قد تستيقظ فيها ذاكرتك ، فتهيج و تعصف بك هناك ،ألا تخشى أن يغشى بصرك صور مكانك وزمانك ، فتجده يشكوك إليك ، وهو ينزف ألمًا وشوقًا لرؤيتك ... هل تستطيع أن تتحمل الموت كل يوم بعيدًا عن هذا الزمان والمكان ...؟
لا تذهب بعيدًا ... ما زال بإمكانك أن تتراجع ، انظر إليِّ ، وانظر من حولك ،فأنا أخشى عليك ، ابقَ معي هنا ، وانظر جيدًا ماذا ستترك خلفك وماذا ستفقد وماذا ستكون ..
ستترك قلوبًا لسوف تحترق حزنًا عليك ، و ستفقد وطنًا وتغدو بلا هوية وبلا أية علامات فارقة ، وستضيع مع جملة الضائعين ، وستكون لاجئًا في عتمة الظلام ، ولسوف تُنسى هناك ...
كأنك لم تكن ..