عندما كُسِّرت المحابر حيث العَيْثُ في كل مكان! وحُرِّقَتْ الأقلام في وطن النار والدمار! قطَعَ من هُدُبهِِِ واحداً، فحبّرَه بقطَراتٍ، اعتصرها من قلبه، ليخط لي عهدا باللون الأحمر!؛
"لا تخافي، ولا تحزني، فلقد بوّأتُ لكِ قلبي منزلاً، وسأجعله سكناً وسلاماً، فادخليه راضية! ".
وقال؛ انظري لحولِكِ... ونظرتُ!
وجدتُ أنه أخدَمَني حُرّاسا، من الإنس والجن.
ثم أسمعني همسه؛
لا تجزعي إن رأيتِ حَرَسِياًّ جَنيباً، وإن كان من الشياطين، فهو ماهِِنٌ لكِ، وحينئذٍ ينتظر أمرَ منكِ!
وحيث صارت الورود في وطني يَبْساً، وضاع عبيرها في خِضْمِ روائح البارود وعفونة الجثث، صار حيْرٌ! كيف له أن يتوّجني بالورد، ملكة على المكان، بما فيه قلبه، والعقل والوجدان؟!
لم يشأ أن يطيل في الحيرة، فلطالما كان مثلي، يرى أن الرجال لا تحتار!
فتذكر فورا؛ قصة "العندليب والوردة الحمراء"، ثم بلا تردد، ومثلما ضمّخ البطلُ وردةً بمُهْجَتِهِ، ليهديها حمراءَ لحبيبته في يوم مولدها، أعدّ هو لتاجي أربعاً وعشرين، ليجعلني لحظتها "مليكة فؤاده" !
وما إن دخلتُ مملكتي، وإذ كنتُ مُحوَّطةً بالسكينة، وممتلئة بالرهبة، شعرت بقلبي يقفز رَقِصاً، حيث وجد بحِياله -لأول مرة- صديقَه الذي كان غائبا مُذْ برهة من الدهر . فاطمئَنَّ وسكن إليه، ثم بعد لحظات… تحوَّت عيناي، وأغامت فيهما الدنيا، وكادت تستحيل لغياية، لحظةَ أن ذاقتا - بعد تَصَبُّرٍ- حلاوة البَرْد!
وهكذا التقى الجمع بحبِّ، على غير انتظار؛ قلبي والفرح، وعيناي والنوم، بعد يأسٍ كاد يُنسي بعضُهم بعضاً! وروحه… كالشجيرةِ الغَيْناءْ، احتوت جمعهم، كي لا يحيقَ بهِمْ حَيْفْ.
وبعد هَجْعَةٍ ، ابتدأ حُلميَ الأول؛
إذ وجدتُ نفسي وحيدةً، في مكانٍ مَهِيلٍ! لا اعرف وجهة لأوجه وجهي لها! ولم أكن أعرف اسماً لغيره لأنادي عليه! استمهلتُ قليلا... ثم… وبكل شوقٍ واحتياجٍ ناديتُ عليه... لكن!؟ حتى أنا، لم اسمع صوتي! وكل ما سمعت -وأنا لا حيْل لي ولا قوة- أنينَ رأسي، وكأنه يُعلن عن حالة مخاض! حتى اهتزّت أرجاءَ جسمي من صرخاتِ قلقٍ لحظة ولادتهِ على عَتَبةِ بابِ رأسي، ثم سقط معي مغشياً عليه، في غيابة خوفي!
وبعد نزْرٍ من الوقت، ظهر نفرٌ لا أعرف إن كان من الجنِّ، أو من الإنس، أو من الشياطين! متخفيا بقناعٍ، وهيئتُه السوداء، تُشبه الهيئات التي أراها كلما ذهبت لمكان عملي، حين تسمح ظروفُ الطريق بذلك. وقف أمامي مُتَهَوِّكاً حتى سألني:
- من أنتِ؟
فأجبته فورا: بل من أنتَ؟! أنا المليكة !
لاحظتُ بعينيه -التي لم أرَ منه شيئا سواها- ابتسامةً ساخرة، ثم أردف:
حسنا أيتها المليكة؟! لم يعد لك مكاناً هنا... ولأنك مليكة! سأمهلك عشرَ دقائقٍ لتغادرين !
ثم أدار ظهره وأطلق عياراتٍ نارية في الهواء، كرسالةِ تهديد لي ... ورحل!
تركني أنادي، واستنكر، واستاء، و... و ... لكن صوتي لا يزال معتقلاً! وظلت شفتاي ترقصان بلا نغم!
وعبثاً، صرتُ اضرب رأسي بيديّ لعلي أفتح باباً لصوتي فيتحرر، مع أني أعرفُ مسبقا أن لا فائدة... وأخيراً! ... سمعتُ صوتاً، لم أعرف مصدره! أخذ يخاطبني بنبرةٍ كأنها مثقلةٌ بهَمِّ وحَزَن؛
- مليكتي ، مليكتي!
- وأحسست بيدين –بلا ملامح - تمسكان راسي برفق، ولم يتوقف الصوت عن ترديد تلك الكلمات:
- مليكتي ، هل أنتِ بخير؟!
وفجأة، فتحتُ عينيّ، إذ هَببتُ من نومي، وانقطع حلمي!
وإذا بأحدهم يقف بقربي، هامساً، وقد همَلَتْ عيناه بالدمع؛
- مليكتي! هل أنت بخير؟
- أجبته: لا ! لست بخير، فلقد رأيت كابوسا أذهبَ فرحتي بوجودي هنا. ولكن من أنت؟!
أنحى بصره عني وأهَّ أهّةً برّقَتْ عينيّ تبريقا، وكأنهما تترقبان كلاماً منه، حتى تمتمَ:
- أنا هنا لخدمتكِ، سمعتُ صوتَكِ مُستغيثاً باكياً، فأسرعت بالحضور، وما ظننتُ أنّ ما كانَ كابوساً، بل !
تردد قليلاً ثم أكمل:
- اعتقدت أن احدَهُم أخبركِ بالمصيبة ؟
شعرتُ بقلبي يُصغي معي ساكتاً! وبالكاد سألته:
- أية مصيبة؟
- فأجابَ ، وكاد صوته يختبأ وراءَ شفتيه، ولم أكن أعرف، أخجلا كان ذلك أم أسى! حتى قالها:
- بينما كنتِ نائمة، رأيته يُصلي... وسمعته يتضرع إلى الله، أن ينجيكما من القوم الظالمين... وقبل أن يُنهي صلاته، جاء مجهولٌ، وأطلق النار عليه، فأرداه قتيلا!