حر ُالصيف ولهيب البشر
قصة قصيرة
جلس أمام مكتبه كدأبه كل مساء يكتب تارة ويتفقد مخطوطاته وما أسال على صفحاتها من مداد الفكر والقلب. طفحت نفسه بهجة ومسرة، حين أستعاد أطوار رحلته إلى مكتب توسم فيه أن يستجيب لتطلعاته.. جد في مواصلة شق الطريق في خطى وئيدة، شاعرا كأنه يتسربل فستانا يحاكي الطاووس زهوا.. نورت غرة البشرى وحان قطاف التمرة.. هي بحق تمار تفننت يد عليا خفية في زرع بذورها في رحم الذاكرة ووشحت بها وجه الخيال.. وسبحان فالق الحب والنوى! اخضر التمر وأينع.. ساغ منظره وتاقت النفوس لحلو تراتيله. هي روح الإبداع تهل طيفا كالغيمة الشفافة تهب المنَ والسلوى.. هو الإبداع تنمقه بنات الوحي وترسله ماء سلسبيلا. لم تخطئ فراسة مسئول الثقافة بالجهة حين أرسل في طلب مقابلة السيد محمد نجيب؛ ذلك الشحرور الذي استلهم تقاسيم شدوه من وحي الشجر والبشر، وأفلح، بعد لأي، في أن يأتي بما لا تستطيعه قرائح دهاقنة الثقافة ونمورها الورقية .. وجميع من سقطوا بمظلات العار في فناء الدار، وأصبحوا في ميعة الزمن الضاحك أوصياء على الدار، يتقنون في ردهاتها وكواليسها ثقافة ذات نكهة مرة مزاجها نبذ الأخر وطمس معالم فرائده وإقبار زاده. شعر بفخر عظيم إذ استقبله نائب المسئول الكبير في مكتبه الوثير.. سر الكاتب الواعد من فيض الإطراء المتفجر من لسان هذا الرافد الاصطناعي من روافد الدار.. مهما كانت شهادتي في حقك وحق ما خطت يمينك فلن تفي بغرض أو تطفئ غلة.. أنت جاوزت الشروط بمئات الأميال يا سيد نجيب! أين كنت متواريا يا هذا؟.. هيا.. بادر من الآن وخط طلب الانتماء إلى الدار.. أنت أولى وأجدر من مخلوقات ثقافية ممسوخة أنزلتها المظلات، وليس لها من الزاد سوى مقالات بئيسة من وحي مزابل التاريخ.. أمست الدار كهفا مسكونا بالبوم والغربان.. هذه حقيقة كالشمس لا يحجبها غربال.. أنا أول من يبارك مزكيا. جعل يتصفح رواية من زاد الزائر ولهج .. هذه ذخيرة من نفيس اللجين وخالص الذهب.. بمجرد ما تلمسها يد الرقيب يقام لها حفل بالتمر والحليب!! على كرسي أنيق متحرك ما يزال حديث عهد به، ظل السيد عبد الحميد مسلوب يميد يمينا ويسارا في حركة شبه آلية.. مفعما حبورا مغمورا نشاطا وزهوا، يشي مظهره بأنه شرب ما تيسر من لبن السباع المنبطحة في عرين الدار. أشار إلى كاتبته.. هيا جمانة باشري رقن طلب تفعيل العضوية.. ويرفق الطلب بنسختين من عصارة الفكر ورحيق الوجدان.. وينصرف محمد نجيب يحصي أدراج الإقامة خفيف الظل فخورا بما أنجز.. وتطوى الأسابيع وتزهق أرواح الشهور.. ودار لقمان ما تزال على حالها!! تتوالى الزيارات وشعار كل زيارة"لم تجتمع اللجنة الثقافية الموكول إليها فرز الغث من السمين".. لازمة رتيبة قاتلة أنهكت أماني محمد نجيب.. جفل وطفح به الكيل من توالي ضربات التسويف يسددها السيد عبد الحميد مسلوب بنبرة محتشمة لا تخلو من ضعف وانهزام.. ما عليك إلا الصبر.. اللجنة لم تجتمع بعد!! حتى البسمة التي ظلت تشع من وراء نظارته السميكة، يوم استقبله بمكتبه استقبال العظماء، أفلت وغارت في أركان المكتب.. فقه محمد نجيب سر اللعبة عن طريق الصدفة.. انزوى لحظة متفكرا، ولم يهضم ما تناهى إلى سمعه عصر هذا اليوم القائظ.. استيقن بأن الطلب المزكى من الرافد الذي غار ماؤه وانقطع عن الخرير ينام قرير العين في رف أغبر ضرب عليه العنكبوت بنسجه .. ردد في حرقة أججها شعور بالاحتقار والمهانة.. وما ذنبك يا محمد نجيب إذا كنت لا تحمل على ظهرك لوحة مكتوب عليها " أخ مناضل في صفوف...!!!!" ضحك ملء فمه وهتف باتا صوته عبر الأثير عسى أن يصل مسمع النائب المغشوش.. أدركت بحسي المرهف ـ منذ شنفت مسمعي بمعزوفة وضع مقاماتها لفيف السباع الموبوءة ـ أنك وشحت ظهري بلوحة مكتوب عليها: هذا قبر الشهيد محمد نجيب! رتب مخطوطاته وأعادها إلى رف الخزانة.. وغادر خارج البيت يلتمس نسمة هواء هربا من جحيم الغرفة الغارقة في حرارة الصيف ولهيب البشر..
محمد غالمي
المجموعة القصصية: فرسان الجحيم
قصبة تادلة في 11-12-2007