ذ ما ظننتُ أني سأرى وجه طفلي كما رأيت وجهك الذي نافس البدر ليلة مطلعه, والشمس ساعة شروقها, والسراج لحظة اشتعاله في العتمة .
واسمح لي يا طفل السمو أن أعتذر لك عن هذا التشبيه المُبتذل,الذي قَـطعّته ألسنة الأدباء استخداما واستعمالا .
وإن أردت أن أترفع -يا طفلي- عن اللغة بمفرداتها ومدلولاتها؛ لأتيتُ بالدر الذي يناسبك فيجب عليَّ حينها أن أهجر الكتابة قاموسًا ومعجمًا ,غريبها و عجيبها ,قريبها وبعيدها , فليس هناك ما يعدل أن أعبر به عن بهِي طلعتِك ,وجميل طلتِـك, يامُدَلّـل السمو أنت وآسر لُبِّها, وساحر بصِيرتها قبل بَصَرِها .
وكم تَعَمّدْتُ الكتابة دهرا ً أكتب وأمحو, وأفتش وأنقب؛ لأجد ما يعدلك وما يوازي حسنك, فما وجدتني إلا كحاطب ليل , حطب من الحطب الصغير قبل الكبير, حتى إذا ما نشب عود صغير في أنامله أدمى أصابعه ,حتى رأيت أن أترك القلم ليكتب بعفوية .
طفلي :
وجدي عليك, وعلى أثر تربة وقعت أقدامك الطاهرة عليها, فتراقصت تلك التربة احتفالا ببراءتك التي لم تعهد بِمثلها ,فأنبتتَ ثمار بهجة بان على طلعها أثر بلسمك الطفولي .
مُدَلّلِي أنت.
وجْدِي أنت .
غِنَى أُمك عن كل فقر بشري يأكل العواطف ويُسْلِمَها للدود تأكل منها حتى الفناء.
وهل أكل حبٌ قـلب أمك إلا حبك ؟
وهل حملت السمو في أحشائها ما هو أطيب وأشد براءة منك, ومن وجنتيك ؟
بل وإن شئت فقل :هل حملت الأمهات بأسرهن مثلك؟ .
لا أعلم -يا وحيد السمو- لمَ كلما آثرت فيك شيئا تداعى كل شيء فيك ينادي عليّ , فأعجز عن التلبية التي تُوفِي حق هذا النداء .
ولا أعلم كلما هدهدتك انحدرت مزامير تلقائية النّفَس, شلاّليّة التدرج لتسكب في أذنيك الطروب ما يروق لها.
ولإنك طفل مستثنى عن بقية الأطفال لم يكن حملك تسعة أشهر؛ فليس مفهوم حملي لك هو حمل الأحشاء بل –يا قرة عيني أمك- أن كل ذرة من ذرات جسمها تحمل ملايين الملايين من الجينيات الحاملة,بل قل: المسكونة بحبك.
تخيل- يا حبي - لا يحملنَّه مجموعة, بل كل ذرة تحملك على انفراد, فأي تغلغل فيَّ تغلغلت يا قرة العين .
نعم يا مُدَلّلي ملأت جوانحي قبل جوارحي بحبٍ عَسُرَ عليِّ رسمهُ في لوحةٍ ذات ملمحٍ زيتيٍ ؛لعلمي بأنك ستذيب الزيت حلاوة .
وتعسَّر عليَّ أن أخُطَّ حروفا ولّت بأدبارها؛ خوفاً من زحف حبك الذي لا تستطيع مواجهته.
لكأنما معجمي اللغوي أفلس حبره, فلا كَلِمَ ولا كَلام ,ولا حتّى رسم لنقطة قاف أو فاء باقية .
أتعلم -يا بكري- أنك الوحيد الذي جعلت أمك دمية تُحركها حيث شئت, ومتى شئت, فتسيَّدتَ عليها ,وهي من سادت أولي السيادة أنفسهم .
فعجباً لسيدٍ أصبح مَسُوْدَاً ,وحاكم أضحى محكُوماً ,فهل هي تقاليب اللّيل والنهار, وتغير الأحوال ؟.
لا بل هي الروح الخارجة من الروح يا سيد الروح , هي الطواعية القادمة من أخمصها,هي المبايعة على عرش القلب دونما انقلاب, والقيادة التي أتت من غير قَوْدٍ مسبوقٍ بطلب أو مزاحمة .
هو السلم الذي لم يأتِ بعد حرب, بل باجتماع طرفين ما اختلفا ليتفقا .
ريحانتي وغناي أنت
فتقتَ شذى حبٍ ما كان للوردة مُتَفَتِحةً أن تخرج شذاهُ, ولا عبتَ مشاعر ما كانت رهناً لأحد ,وأطلقت أسر مشاعر ما ظنت أن وثاقها سيُطْلَقُ في يوم, وأعتقتَ رقبة عواطفٍ ما حسِبَتْ أن تُعْتَق في ساعة.
أي ساعة تلك التي أحملك على صدري فتشتعل حرارته,و لو كانت في ليل بَرِد قارٍ لأدفأته,أو برودةٍ لو وضعت في لهيب قيظ لبرَّدَتْهُ .
وما أزهر ذاك المهد الذي لفَفْتُكَ بهِ ساعة ولا دتك إلا لعلمهِ أنك أرض مُباركة تُنْبِتُ الطيب , وما اعْشَوْشَبَ سريرك الصغير إلا لتيقُنِه بِرَبِيعيّتِك التي جُبلتَ عليها, فلا توضع في مكان إلا حّلت به البركة أيها المبارك .
وما زلت أذكر انكسافة الشمس عند تبسمك الأول في مهدك ,واستحالتِها للون حناءٍ عند صياحك الأول .
و ما أدركت أني فاقدة للبصر إلا حين رأيتك المرة الأولى.
بنيَّ وقلب أمك الحي :
ناديتك في يوم من الأيام أن تأتي إلى حضن أمك الحنون , فأدرت لي ظهرك , وأشرت إليّ بأصبعك الصغير أن اتركيني, فما كان من حضن أمك إلا أن بكى ,وتنشج بالبكاء قبل أن تسيل دموعها ,واستحالت شرايين رئتي إلى مجارٍ دمعية لا هوائية , فما كان منك ألا أن قفزت إلى حضنها لتداعب وتلاعب خصلات شعرها, وتضعه على رأسك حيلة منك لاسترضائها .
قائلا بلهجتك الطفولية: ( سوفي سعرك أخذته) فأتوسل إليك, فتعيدهُ وتزيد عليه شيئا من خصلات شعرك الصغير استزادة في طلب الرضا .
طفلي البكر:
طالما تساءلت عن الحب الذي وهبته إياك,هل سأعطيه بقية إخوتك؟.
فرأيت من الظلم أن أنجب غيرك ؛لأنه ليس بمقدوري أن أهبهم كما وهبتك من الحب والحنان .
فيأخذهم ما أخذ إخوة يوسف من الغيرة والحسد , فلا طاقة لي بفقدك , ولا صبر لي كصبر يعقوب, فابيضاض عينيَّ قد بانَ عليَّ حين مُجردَ التفكير في فقدك , فأي كظيمٍ أنا إذا فقدتك !
مُدللي أنت :
وهبتك السمو قلبها فهبها قربك وبرَّك .
حفظك الله يا روح السمو
" صورة رسمتها لك مُدَ لّـلِي ".