رقص على حافة مارأسي جسم كرويّ مجوف بما يسمح للدماغ بالتقافز هنا وهناك، يلتجىء إلى هذا الجدار أو ذاك ، كلما تحرك هذا الجسم الكرويّ ،فأحس بلا نسب الأشياء ، وبلا لونها ولا شكلها ، وصولا إلى لا طعمها ولا حتى ملمسها .
هذا الحديد الصدىء أمامي حسبته مروحة قد تبرّد تلك الأبخرة الحرّى التي تنبعث من مسامّي. ها هو يمتد وقوفا لساعات ، ولمسافات ، إلا أنه يتوقف فجأة ، للحظات لا تكفيه لحفظ توازنه فيتهاوى جزء منه ، وتنفتح على وسعها أعمدته المروحية من أعلى ، فيما تبقى مضمومة ملتوية من الأسفل ، فتميل باتجاه الأرض المغطاة بالصقيع ، مكونة هضابا عجيبة من معدن صدىء.
تعتريني رغبة بالضحك وأنا أحس بأشياء تدغدغ باطن قدميّ ، فأضحك ، هو ملمس الحديد البارد المغطى بحبيبات الصدأ . لكن ألواني وقعت مني وانفرطت أرضا ، فمن لي بمن يلمها قبل أن أفقد المشهد؟
ـــ أرجوكم هي لي ، نعم وقعت مني . شكرا . وتلك الفرشاة هناك أيضا .
ـــ هكذا تماما .
وأمد ذراعي بالفرشاة المغموسة باللون البني المحمر الداكن ، أمدها على امتدادها لأرسم لوحتي الجديدة. جداريّتي التي ستؤرخ للأقدام الصغيرة والكبيرة الدائبة السير مندفعة باتجاهين متعاكسين ، براحة رغم الركض ، ونعومة رغم الألم .
أسمع صوت ضحكات مكتومة ، فأضحك أنا الأخرى ويدي مستمرة بتلوين مساحة كبيرة من الجدارية . أريد الآن فرشاة أصغر ، أحتاج لرسم بعض التفاصيل ، فأمد يدي فجأة لتناولها ، فأحس بأشياء تقيد يدي ، تمسكها لكن بحنان.
ـــ ماذا ؟ دعوا يدي .
ـــ أمي لا تقلقي . هذه أنا ، أعطني الكوب فقد تناثر الماء . دعيني أجففه .
أحس ببرودة المعدن تلسع أضلاعي ،فأصرخ :
ـــ دثروني . البرد يقتلني ، يحرقني ، يجمدني . لا أدري.
لكن أين أجد ما يكفي لتغطيتهم ؟ لقد عصفت بنا رياح سموم أخطأت وقتها ، فحولت شتاءنا سعيرا من بنادق وصقيع وجوع .
ماذا تفعل دمعاتي هذه وسط يباب الأرواح !
أفتح عينيّ لأرى العينين الباسمتين تتلألأ فيهما دمعتان بعد أن سقطت أخريان على خديّ.أكابد ابتسامة منع تكونها جفاف شفتيّ المحترقتين ، فأبكي .
ـــ جرحي صغير لا تقلقي . هم من يقلقني أمرهم.
ثم أغرق في بكاء منغّم محشو بالكلمات ، يقطعه الصوت القلق إلى جانبي :
ــــ أنت هنا في سريرك ، لم يصبك رصاص ولا حديد ولا حجر.
أصغي باهتمام وتركيز محاولة اللحاق بهم ، وسماع أصواتهم وأنادي :
ـــ أين هم ؟ أين أنتم ؟ أين ذهبت الأصوات ، وهذا اللغط أين تبدد ؟
يد تربت صدري بإيقاع منتظم رقيق ، فأنسحب ببطء وهدوء وأغلق كل الأبواب .
أسمعني ، أسمع كلماتي تنطلق قذائف وحمما ملتهبة :
ـــ بهدوء ، دون فوضى ، اخرجوا مسرعين ، واتركوا كل شيء . النار تقترب . خذوا الصغار والأوراق واقفزوا .كيف ؟ نعم كيف ؟ يا لفجيعتي . كيف نخرج وليس هناك غير باب واحد مغلق ؟ وأنا أحترق ولا أملك ملابس واقية . هو الجنون كيف لا؟
ـــ افتحي فمك قليلا حبيبتي .
لا مهرب إلا هذا الجبل سنتسلقه. لا تخشوْا ارتفاعه. لطالما تسلقته ، إن فيه بعض صخور رملية مبعثرة تساعد على تثبيت الأحذية فلا تنزلق .
تسلقت الجبل كعادتي بسرعة أصواتهم تناديني . نظرت فإذا بهم ينتظرون حاولت النزول عندما اكتشفت أنني حافية القدمين. هكذا أنا مندفعة دائما ، وفكرت:
ـــ الصعود سهل ولكن النزول من هذا الارتفاع أمر مرعب ، تماما كما أنا في أحلامي ، أصعد أعلى القمم بسهولة ومتعة ، وأصاب بخوف النزول . هي فوبيا أعاني منها دائما .سأحاول مضطرة.
وضعت قدمي العارية على نتوء في الجرف الأملس فانزلقت ، ودوت صرختي ورجع صداها يجلجل في الكون .
أسمع همهمات وأرى عيونا كثيرة وأشياء لامعة فأغمض عينيّ وأبكي بمرارة.
ـــ أعرف ماذا حدث . مات الجنين . لا داعي للإخفاء .
ــ أمي . هذا غير صحيح. افتحي عينيْك.
ـــ إذا هي ذراعي . بترت أو شلت.
وأنخرط في بكاء صوته يقطع قلبي .أفتح عينيّ بجهد ، أجد الوجوه الباسمة والعيون القلقة حولي ، ويدا ناعمة تمسح عرقي .
ـــ أنت تغرقين في عرقك . دعيني أسحب ذراعك من تحتك .نعم هكذا.
______________
حنان الأغا
دمشق
1/2/2008