حائـطُ المـبـْكَـى
إني نسجتكَ من دمي ذات يومٍ وغزلتُ منكَ الرّوحَ والمعاني والشعورْ
وخلقتُ لكَ القلب ناراً ونورْ , وأسرجتُ في عيني الدموع تضيء لكَ المسالكَ والدُّروب , وأشعلتُ لكَ النّار من أضلعي تستدفيء بها من صقيع الورى والدّهور
وهيّجتْ لكَ الشِّعار في معابر روحي كي تنعم بالسلامة والسكون في ظلّ معارككَ الشّقية بالوجد في صفحات السرابْ , وكنتُ أنا صفحتك المليئة بالحقيقة والحياة بلا شجونٍ أو عذابْ ..
ياويح أوردتي التي بدتْ تعوي وماعرفتُ أنا العواء والنواح إلا معكَ ..
ياويحها ماذا أقولُ لها وقد خنتَها وصفعتَها بغتةً دون أن تعي تلهُّبها من فيحِ انتظارك العتيق ؟!
أسهدتُ معي الكون حولي , أجهدّتُه لأجلكَ , وباتَ مُشفقاً مني وأنتَ في غياباته تغدو وتروحْ ولاحتى ترى أو حتى تلوحْ ...
تلوكُ أطرافَ البقايا حولكَ من ظلالي ثم تمجُّها أعناباً ممضَّغةً مسخةً لامعالم لها لاصورة لاظلّ لاحسّ أو شيءٍ من نبض ٍ يئنْ ..
ياربَّ من صنع اللّظى في مهجتي من قوسِ قَسْوَتكَ - التي ماذقتُها قبل يوماً إلا وكانت قوساً من جديدٍ حاد - اغفر لقلبي غفلتَهُ وتهدُّجَهُ في طريق الجنون حيرانَ ثملاً من خمورٍ ليس لها من الخمور غير البلادةِ في نفورٍ وغيابةٍ وجمودٍ وشرودْ ..!
أوّاه أين أهرب من نفسي التي أراها تتكسّرُ وليس في يدى كيف ألملمها وأنا المُكسّرةُ الحنايا والضلوع , مُهشّمةُ البقايا من حنيني واشتياقي اللقيط ؟!
قد طالما كنتُ قد رضيتُ أن أدفنَ لكَ جُرحي من جديدٍ كُلّما تحفَّز للنزيفْ , وخنقتُ لأجلكَ الآهَ كُلّما مزّقتني بيدٍ من حديدْ , واستنشقتُ حبّكَ رِضَىً وحُبّاً , فألقمْتَنِيهِ على مَضَض ٍ قهراً ينفثُ الصّديد ْ ..!
الآن سرتُ أسيرُ وحدي في الطريق , وحملتُ قلبي بين كفيَّ يجهشُ بالبكاء كطفلٍ رضيعٍ فقيدٍ يتيمٍ طعين ولا حيلةَ لي معه غير أنْ أبكي معه ..
ياظلّ أسرجة الطريق أنيري الحياة له ..
أمّا أنا فلقدْ عَمِيتْ !
وخذي ذلك الرّضيع ودثِّريه ولو بقماشٍ خَلِقٍ بليدْ ..
ماعاد يُفرِّق بين ملمسٍ الأشياء في ظلّ خيانة الأشياء ..!
أما أنا ماعدتُ أعرفُ من أنا .. ورجمتُ عقلي بالتَّفكرِ بات عقلي في ذبولٍ وذهولْ !
وأردت أن أرجُمَ أيَّ عرقٍ فيَّ بصوتِ موتي والنّشيج .. تبعثرتُ من جديد ..!
من أنا ؟!
رأيتُ أني كنتُ ساديّةَ الشّعورِ , ساديّةَ البوحِ في أتون ٍ من رصاص ٍ وذوبِ نحاسْ
ياربَّ من خلقَ الشقاءَ عرفتُ الآن ماهو ..!
عرفتُه لمّا عرفتُ السّذاجة ونسيتُ الدهاء ..!
لمّاعرفت كيف يكون العطاء مزيجاً مع النّزف ..
مع القيح !
وسَلِمْتَ ياشقاء كما أنتَ شقاءً منذ تبنّيتَ من كان مثلي من الأشقياء !
آهٍ ......
لا ألومكَ !
لم أعدْ أدري من أخاطبْ لعلّه كان الحبَّ الغائب !
تيقّنتُ أنّه لم يعدْ لي من رئتي غير شعيراتها الحمراء , وليس من أي شيء كان لي غير ذلك الرضيع الفقيد وشوق ٍ لقيط ْ !
هذان هُما بقايا عيشي على نار ٍ من رماد , وهُما عيشي على ماتبّقى لي من غيابٍ وسُهادْ !
وكأنه لم تكن أنتَ الذي خلقتَ حولي كُلَّ ذاك الضّباب أو كأنّكَ لم تكن ذاك الذي طيرَّ في سمائي ذرات ٍ من غبار ٍ وسمومٍ كالعُبابِ وتشبِهُ الغربان يئِزُّ لها قلبي , يفرُّ منها يسقط في غمٍ سحيق ..
بدت أسمعُ التّغريد نعيقاً , وموسيقى الماء هزيمَ رعدٍ يهتزُّ منه الأديم
أي خوفٍ تجلَّى حتى في حروفي , وحتى في فراشي , ووسادي بتُّ أهربُ من نومي
لأنني حتماً سأبكي
لكن هذه صفحة قلبي حائطُ مبكَى أبكيكَ هنا وأبكي ..
لأننّي ماعدتُّ أقوى
عدتُ أبكي ..
عدتُ أبكي من جديد !
....................................
الخميس 7/ 2/ 1429هـ